أريد أن أقرأ لأنسى!
هكذا قالت لي، كنا غريبتين، جمعتنا المكتبة، أسهم حوار البائع معي، في تعرّفها إلى محبتي قراءة الروايات، ساعدتها في اختيار الروايات بسؤالها عن طبيعة قراءاتها و ما أحبت منها؛ لأعرف ذوقها الأدبي، فكانت إجابتها برغبتها في النسيان. تذكرت الكتاب الذي صدر قبل سنوات عن العلاج بقراءة الروايات من خلال نوع المشكلة التي يعانيها الشخص.
أريد أن أقرأ لأنسى!
لحظتها ركد الهواء بيننا، صار ثقيلاً لا يطاق، لم أنظر إليها، تشاغلت بتقليب العناوين. كأن النظرة ستكشف سرّاً، أو تمزق ستائر مسدلة على ذكرياتها وأحداث أيامها. حاولت أن أبتعد عن روايات أساسها الحب، فربما تكون خارجة من تجربة حب لم تكتمل أو زواج فاشل، أو أن تدور حول فقد عزيز، رشحت لها روايات من كلاسيكيات الأدب العالمي، تركتها ومضيت.
النسيان أسئلة تتوالد، معادلات عدة، يبدو للوهلة الأولى أن النسيان عكس التذكر، لكن كلما أمعن المرء في النسيان استحضر كل التفاصيل، كأن النسيان هو قوام التذكر، مرادف له. هو ليس إلا لعبة حرة في الأزمنة، ففي الحاضر يشتهي الشخص نسيان الماضي، فيعيشه ضد رغبته الحقيقية في زمنه الحاضر، يعود إلى الماضي محاولاً مسح مواقف معينة، أو شخص ما. هكذا تسيطر الذاكرة على الإنسان، تتجلى في المكان، الذي يذكّر بكل التفاصيل، في الألوان والروائح، في أمنيات المستقبل التي حُلم بها، لكنها لم تتحقق. على وسادة الليل تنثال كل الصور بوحشية، تقاوم محاولات نسيانها في النهار، تنفخ في الرماد، لتصحو المواجع في أسئلة الآخرين عمّا حدث، في النظرات المتسائلة، التي تنكأ تأويلات في النفس لا تنتهي، كأن المرء يريد إنتاج ماضٍ جديد على مقياس حاضره، فيكنس منه، ويمسح، أو يعيد ترتيبه من جديد.
هل النسيان تحرير لذاكرة الإنسان مما يؤلمها؟ هل هو طريق السعادة المبتغاة؟ هل النسيان تجاهل متعمّد؟ هل هو ممارسات تنسج قماشة واقع جديد؛ إرضاء للعقل الذي خالفه وسكوناً للقلب؟ أم النسيان قدر لا بد من الرضا به عن قناعة ومحبة، وأنه الخير. أرقى من التجاهل هو التصالح مع الذاكرة، احترام الماضي وذكرياته؛ لأن مياه الأيام جرت فيه، وشقت الأودية، علينا أن ننظر من شرفة اليوم ووعيه، نقدر تلك الظروف، نشكرها بمحبة نتسامح معها، رغم ما فيها. لكل منا أن يخطّ كتاباً للنسيان، بحبر وقته أو دموعه أو ابتساماته، أن يروي لنفسه حكاياته الشافية من الحزن والتذكر والحلم، لنا الاختيار في التجاهل أو التصالح.