أكاد أسمع ضحكات أحدهم لمجرد قراءة عنوان المقال!
أجمل وأكثر الأسفار تلك التي أمضيها وحيداً، أقترب فيها مني، ومن كل شيء حولي كيفما أريد، وقتما أريد، أينما أريد. لكن لو قيِّض لي أن أختار سفراً بصحبة صديق سوف أختار سفراً مع الروائي عبد الوهاب الحمَّادي، ليس لخبرته في الأسفار بحكم مشروعه الفريد المعني بالرحلات الثقافية «باب للرحلات»، إنما لأننا نتشابه كثيراً باهتماماتنا وقراءاتنا وحب الكتابة. للسفر مع عبد الوهاب فوائد جمة، على رأسها معرفة الأماكن التاريخية التي نزورها، بما يطالها من «أَسطَرَة» حمَّادية تبز القصص الموروثة تشويقاً، والأهم من المعرفة المؤسطرة، فائض الضحك الذي ندَّخره زاداً للكويت، يكفينا لنتماسك أمام إحباطات عام مقبل. من عوائد السفر مع الحمَّادي الإياب بحكمة جديدة تصنعها اللحظة، نستخدمها في ما بيننا إلى حد تتفوق فيه على الأمثال الشعبية حضوراً في المشترك من حياتنا اليومية.
استأجر عبدالوهاب سيارة لنطوف بعض دول أوروبا قبل سنوات، وعند استلامنا السيارة وضَّح مكتب التأجير أن وقودها «ديزل» بحسب الطلب، لكن ناقل الحركة كان يدوياً، وعبد الوهاب، خبير السيارات الجهبذ، يفضِّل الأوتوماتيك لأسباب تتعلق بالراحة، وليس لأنه لا يجيد قيادة سيارة بناقل حركة يدوي لا سمح الله. استبدلناها ولم نسأل عن وقود السيارة البديلة.
طفنا بعض المناطق في الأيام الأولى ونحن نثني على الـ«ديزل» كخيار موفق لتوفير الوقود، أرخص ثمناً من البنزين ويستمر مدَّة أطول في رحلاتنا الكثيرة. وفي أولى محطات الوقود في إسبانيا، وبعد مسيرة أميال كثيرة بين السهول الخضراء وأشجار الزيتون، ترجل عبد الوهاب لتعبئة خزان السيارة بالديزل. فتح غطاء الخزان وأمسك بمقبض التعبئة إلا أن المضخة لم تعمل. خرج عامل المحطة الأشقر، وهمَّ بتعبئة خزان السيارة بالبنزين لولا أن أوقفه عبد الوهاب يؤكد نوع الوقود؛ ديزل. أشار الرجل إلى ملصق التعليمات داخل غطاء الخزان؛ بنزين. عاد الحمَّادي إلى مقعده مدحوراً.
داهمتنا الوساوس في الدرب، ماذا لو أن عامل المحطة قد أخطأ؟ ما أسوأ ما يمكن حدوثه؟ سألني الحمَّادي بصفتي خبيراً معتمداً في شؤون السيارات مثله، أخبرته بأنني سمعت أنه عند تعبئة خزان السيارة بغير وقودها الخاص؛ ينتشر من محركها الدخان الأبيض قبل أن تنفجر. أضفت مسألة الانفجار على سبيل مجاراة رفيقي صانع الأساطير، وصدَّقت. أطبق عبد الوهاب كفيه على المقود: «الله يبشرك بالخير».
كلانا، اليوم، لا يتذكر كيف كان الدرب بين قرطبة ولشبونة، كنت إلى جوار رفيق الرحلة ومرشدها وسائق السيارة فيها، أجلس في المقعد بالعكس أواجه الزجاج الخلفي، صامتاً مثل طفل شاخص البصر يتابع فيلم رعب، آكل من كيس بطاطس اشتريته من محطة الوقود. لم يكن عبد الوهاب بحال أفضل، رغم انشغاله بالطريق أمامه، ما انفكّ يبحلق في المرآة يتحرَّى مصيبة تجيء غدراً من ورائه، يتمتم بين جد وهزل: «اللهم إني أعوذ بك من كآبة المنظر وسوء المنقلب».
في صبيحة اليوم التالي، على مائدة الإفطار في أحد فنادق لشبونة، سألت عبد الوهاب إن كنت قد غفوت أثناء قيادته أمس، نفَى وسألني لماذا؟ أخبرته أني لا أتذكر كيف كان الطريق. عقَدَ حاجبيه: «ولا أنا». ضيَّق عينيه يُردف: «كنا مشغولين في انتظار الدخان الأبيض».
ضحك مستحسناً كلامه: «يصلح عنواناً لمجموعة قصصية». صار واحدنا اليوم ينبه الآخر كلما انشغل عن جمال اللحظة بحتمية انقضائها: لا تضيعها في انتظار الدخان الأبيض!
عنوان المجموعة القصصية، صارَ مقالاً يا أبا عُمر..
وكل سَفَر وأنت الصديق.