للزمن علاماته الثقافية، وهي علامات تمنح كل فترة زمانية سمتها الثقافية، ومصدر التصور يأتي من حال الاستقبال الجماهيري، وكلما تغيرت صيغ الاستقبال فهذا مؤشر إلى تغيير العلامة، وأي تغيير ثقافي لا يصحبه تغيير في الاستقبال، فهذا يعني أن التغيير ليس جذرياً ولن يشكل علامة للمرحلة.
وفي زمن الشفاهية كانت الخطابة هي علامة ذاك الزمن، والاستقبال كان سماعياً كما كان الإرسال صوتياً، وكلما حزب الناس أمر تصدرهم الخطيب ليتعامل مع الحدث، وكل من سمع الخطبة استوعبها وتجاوب معها وهو سماع كلي لا طبقية فيه، ثم جاء عصر التدوين وحضر معه الكتاب، ومع الكتاب حدث تغيير نوعي صارخ بما أن الكتاب حكر على من يقرأ، وهنا خرجت جماهير عريضة من دائرة الاستقبال، وحلت النخبة الثقافية لتقود وحدها المشهد الثقافي، وتم تهميش الكل ممن لا يقرؤون ولا يكتبون. ولقد مرت قرون كانت فيها الأغلبية العظمى من البشر خارج الحدث النخبوي متمثلاً في الكتاب، وكتبت النخبة التاريخ بمعناها وانحيازاتها التي لا تجد من يتحداها.
ثم جاء زمن الجريدة (آية ذلك العصر، كما سماها أحمد شوقي)، ولقد وسعت الجريدة دوائر الاستقبال، ولكنها ظلت في حدود شرط القراءة وبعيدة عمن لا يعرف القراءة.
ثم حدث التغيير الضخم حين جاء دور النص المسموع والبصري، في الراديو أولاً ثم في السينما وبعده التلفزيون، حيث تولت الأذن سمعاً والعين رؤية وصارت الرسالة عمومية تستعيد عمومية زمن الشفاهية والخطابة. ولكن هذه الوسائل مع عموميتها ظلت غير تفاعلية، ترسل ولا تستقبل.
وأخيراً جاء زمن الشاشة التفاعلية وحدثت معه ثورة في علامات الزمن تفاعل فيها الكل مع الكل إرسالاً واستقبالاً من دون تمييز ومن دون قيود ولا رقابة ولا أذون، وهذه أعلى درجات العلاماتية الثقافية.