برز على السطح في السنوات الأخيرة، توافد جحافل لا بأس بها من الفنانين، وظهورهم على العديد من شاشات القنوات التلفزيونية مقدمي برامج، في تجارب متنوعة ومختلفة، وهو ما لفت انتباه المتلقي بالدرجة الأولى وأثار انتباه المراقبين والنقاد ودوائر الإنتاج البرامجي، وخاصة لوحظ الأمر في القنوات التلفزيونية اللبنانية والمصرية والخليجية تحديداً في السعودية والإمارات والكويت.
وفي بادئ الأمر نظراً إلى حداثة الموضوع فقد تعامل المشاهد والناقد معه من حيث الجدة (أي أنه موضوع جديد وحري بنا أن نتعاطى معه)، وبما أن الإعلام مهنة لها اشتراطات مهنية ومواصفات فنية يجب توافرها على الأقل بالحد الأدنى، في من يمارسها لينمو مع الوقت ويكتسب الدربة المطلوبة، فإنه من الضروري الوفاء بهذه الاشتراطات والفروض لتصبح المادة البرامجية مقبولة، إلا أن هناك أمراً استرعى انتباهي منذ الوهلة الأولى لبزوغ نجم هذه الظاهرة. وهو هل لانحسار الأضواء والوجود الفني اللافت لهؤلاء الفنانين في الساحة مدعاة لامتهان الإعلام من أجل الوجود، أم أن هناك سبباً آخر لدى كل منهم؟ وهو أنه عطف على تجربته الفنية في أي نوع من أنواع الفنون، وتحققه من توفر الاكتفاء لديه في مشواره، ويرى أن تجربته بحاجة إلى التجديد والانتقال إلى مسار آخر، يثبت فيه قدرته على أن يكون شمولياً في علاقته بالفن. لا سيما أن الإعلام فن أصلاً، أم أن المسألة لا تعدو كونها إصراراً على البقاء في دائرة الضوء.
في تصوري الشخصي، أن الفنان الحقيقي هو الذي يحدد ويعرف النوع الفني الذي يلائم إمكاناته وقدراته، وينسجم مع مكونات هذا الفن وطقوسه ويبحر فيه ويركز على استيعاب هوية المصطلح الفني إمعاناً من أجل التماهي معه، كي يصل يوماً إلى ذروة سنام الوهج الفني كما يقولون، لعله يوفق في أن ينتزع الإعجاب ويحصد الاهتمام، ويسجل اسمه في قائمة المتفوقين. ومن خلال متابعتي لهذه الظاهرة على مدار السنوات الماضية عبر العديد من المحطات التلفزيونية، لم أجد فناناً في أي مجال فني يقنعني بأدائه دور مقدم البرامج إلا من رحم ربي، وحتى فسحة الأمل الأخيرة المشار إليها سابقاً، على أمل أن يكون أحدهم يملك استعداداً ولو محدوداً غير لائقة البتة. وهو ما نجم عنه شعوري بغصة كتمت على أنفاسي بصدق، وهو ما دعاني إلى طرح استفسار في مخيلتي: كيف يتم استسهال الأمر؟ إذ بعد أن كنت فناناً صاحب حضور في مجالك الفني بسبب موهبتك التي أهّلتك لذلك، وقدمت ما لديك وسجلت حضوراً ملموساً، عبر الأعمال التي قدمتها أو شاركت فيها، وما زال لاسمك رنين في ذاكرة الجمهور، لماذا تصر على ركوب الموضة واختراع التقليعات، بحجة التجديد والقفز على مهنة ليست مهنتك؟ ناهيك عن أنك لا تملك المواصفات المهنية الكفيلة بنجاحك أو قبولك فيها من قبل الجمهور.
إن سيطرة القطاع الأهلي (التجاري) على ملكية المنشأة الإعلامية هو ما سمح بذلك، وهو ما سمح بإلغاء النواميس الإعلامية المرتكزة على معايير، وتلك الضوابط التي ندرك أهميتها وقيمتها، فهي من يصنع المنتمي للإعلام في أي مهنة معداً أو مقدماً أو مخرجاً أو مصوراً أو فني إضاءة أو فني صوت أو إدارة استوديو. ولغياب الفروض المعمول بها منهجياً في مهنة الإعلام، وفد إلى هذه المهنة اليوم ما نراه على الشاشات وعبر الأثير، من خاوي العقول فارغي المحتوى عارضي الأزياء، فاشنيستات وأصحاب حسابات الـ«سناب شات» والـ«يوتيوب»، أن يصبحوا في دنيا الإعلام نجوم الساحة. إذاً الطاولة مقلوبة، فأصحاب الحسابات الجماهيرية في مواقع التواصل الاجتماعي، لا يمكن أن يكونوا إعلاميين، وحتى من الفنانين من ممثلين وموسيقيين ومغنين أيضاً فقد أصبح الإعلام مهنة من لا مهنة له.