لا تخلو الثقافة العربية من قصص الحب الإنساني، التي تركت أثراً مهماً في المجتمع والنفوس، مهما كانت العوارض والحواجز التي لم تسهم في وصول هذا الحب إلى منتهاه الإيجابي. لكن من قال إن أعظم قصص الحب تنتهي بسعادة جانبها التراجيدي هو الذي خلدها عبر الزمن؟ أي أن المأساة كانت طريقاً للأبدية. قصّة كُثيِّر الخزاعي، وعَزّة الضمرية، هي إحداها التي اخترقت التاريخ والزمن لتصل إلينا في عز نبضها الإنساني. هو كثير بن عبد الرحمن بن الأسود بن مليح من خزاعة، هو شاعرها المعظِّم لها والمدافع عنها. واحد من أهم الشعراء الأمويين. وعلى خلاف غيره من الكثير من الشعراء العرب فقد ظل عاشقاً حتى الموت، بلا اعتذار ولا توبة. وصفه أعداؤه بكل صفات البشاعة وقصر القامة. عاش يتيماً من الأب منذ نعومة أظفاره، مما حمله مسؤولية كبيرة، فوجد نفسه راعي إبل وأغنام عند عمه. وأمّا عزّة فهي سيدة بني ضمرة كما كان حبيبها يسميها الضمرية. فهي من ناحية الامتداد العائلي بنت حُميل بن حفص من بني حاجب بن غفار، كنانيّة النّسب، وكان يطلق عليها اسم أم عمرو. وعلى الرغم من شح المعلومات حول بداية قصتهما، كيف نمت وكيف انتهت، هناك تفاصيل صغيرة مبعثرة، يمكن من خلالها استعادة قصتهما. يقال في بعض المرويات إن كُثير، عندما كان يرعى إبل عمه، راح يبحث عن بئر فوجد نسوة من بني ضمرة، فسألهنّ عن أقرب مورد مائي، فدلته إحداهن، عزَّة، فجأة شعر بها قريبة منه لأناقتها وجمالها وثقافتها أيضاً، وربما جرأتها في الحديث الحر والسجالية. فوجئ كُثيّر بعلمها وقدراتها الثقافية. من يومها انفجرت قريحته، فكتب فيها أجمل الغزليات. قال عنه المرزباني: «كان شاعر أهل الحجاز في الإسلام، لا يقدمون على كُثيّر أحداً، أخباره مع عَـزَّة بنت جميل الضمرية كثيرة، كان عفيفاً في حبه، قيل له: هل نِلت من عزة شيئاً طول مدتك؟ فقال: لا والله، إنما كنتُ إذا اشتد بي الأمر، أخذتُ راحتها، فإذا وضعتها على جبيني، وجدت لذلك راحة. وقال فيه ابن خلكان الذي لم يكن يحبه، فبشّعه: «كان إذا مشى يُظن أنه صغير من قصره، وكان إذا دخل على عبد الملك بن مروان يقول له: طأطئ رأسك لا يؤذيك السقف، وكان يضحك إليه، وكان يفد على عبد الملك. ووفد على عبد الملك بن مروان مرات، ووفد على عمر بن عبد العزيز». عندما سمع أبو عزة شعر كثير في ابنته، سارع إلى تزويجها تفادياً للفضيحة. ورحلت مع زوجها إلى مصر، فانفطر قلب كُثيّر، وانطلقت مشاعره الحزينة التي يملؤها الحنين. ظل الحزن واليأس يخترقان شعره. وعندما عرف مكان إقامتها ارتحل إليها ليكون قريباً من أنفاسها. وجد في صديقه عبد العزيز بن مروان اليد المساعدة، إلى أن مات في كمده ويأسه.