عامان وحفيدها المراهق يدخن خلسة في غياب أبيه. يغيب على سطح البيت دقائق، ثم يجيء إلى الصالة في الأسفل، وضوع الكولونيا ينتشر في كل مكان يثير الريبة. تتسلل هي إلى السطح تبحث عن عقب سيجارته ولا تعثر عليه. أين يخفيه!؟ كادت تؤمن أنه يبتلع عقب السيجارة بعد تدخينها. فلا أثر لأي شيء على السطح ولا هو يترك البيت فور نزوله ليلقيها في الخارج!
عرفت أين يخفي آثار جريمته بعد عامين. كان يلقي أعقاب السجائر فوق سطح غرفة المخزن على سطح البيت. تجمعت الأعقاب أسفل وحول خزانات المياه، في أعلى مكان من البيت، حيث لا يصله إلا عمال خزانات المياه وقت تنظيفها وصيانتها بين شهور وشهور. أقبل موسم السرايات. هبّت الرياح كما لم تهبَّ في السنوات القليلة الماضية. هبّت رياح الكَوس من الجنوب مشحونة بالأتربة، لم يستقر الطقس على حال. رياح غربية، ثم هبوب الشمال. بروق ورعود وأمطار تزخ من السماء. وقفت العجوز وراء النافذة تتحرى عودة الصبي من مدرسته بعد الظهيرة. فغرت فمها وهي تشاهد أنابيب صرف مياه الأمطار تصب ماء السطح مدراراً في حوش البيت، محملة بألوف أعقاب السجائر. ألوف تطفو في الحوش كأنها ندف بَرَد. فتح الصبي الباب مقبلاً، يحمل كتبه المدرسية فوق رأسه وقد احتمى بكيس بلاستيكي من زخات المطر. انتفض متسمّراً في مكانه كأنما مسّه برق. راح يبحلق في الأرض والأعقاب البيضاء في حوش البيت تطوف أفواجاً مثل نفرة الحجيج. أدار ظهره للبيت، والكتب على رأسه ما زالت، وأطلق ساقيه للرياح. ضحكت الجدة رغماً عنها. صاحت تنادي الخادمة قبل عودة أبيه من العمل وافتضاح أمره. ومثل «وحشي» يحمل رمحه يبحث عن «حمزة» في فيلم الرسالة، خرجت الجدة والخادمة تحت المطر كل واحدة ترفع عصا الممسحة فوق كتفها تتلفتان ولسان حالهما يقول من أين نبدأ!؟ تلاشت ضحكاتها وقد توقفت عن عد الأعقاب زائغة البصر تفكر: كل هذا في صدر الصغير!؟
كل محاولاتها لإخفاء الأمر عن أبيه باءت بالفشل. وكل صفعات أبيه على وجهه لم تحل بينه وبين مواصلة التدخين رغم خوفه من أبيه واحترامه له. أقلع عن التدخين أول مرة وهو في آخر العشرين. ترك عادته البغيضة من دون صفعة أو عقاب. هشم علبة السجائر وهو يطأطئ رأسه خجلاً، وقت حدثه أبوه حديث رجل لرجل أخيراً: وليدي، اتركها، تكفى اتركها.
كبر الصبي. بوده اليوم لو عانق كل مدخن، وما دمنا في رمضان، يقول: اتركها، تكفى اتركها.

* في الأصل «الصبية والسيجارة»، عنوان رواية للكاتب الفرنسي بونوا ديتيرتر.