أكبر جانب من ترحال الإنسان هو الانتقال من الريف إلى المدينة، وغالباً يحدث هذا لضرورات اقتصادية، من وظائف وتعليم وتجارة، ولكنه في الحقيقة ينتقل نقلات سيكولوجية وأمنية، بمعنى أنه في الريف يعيش بأمان نفسي واجتماعي وفي رابطة متآلفة ومتجانسة، أما في المدينة فهو يفقد هذا الأمان، ويدخل في غربة يشترك فيها مع كل من حوله، وكل قاطن في المدينة هو قاطن في الغربة، بمن في ذلك سكان المدينة الأصليون، الذين سيظلون في مشهد متصل ومتواتر من رؤية الغرباء يتوافدون إليهم، ويغيِّرون نظام السكن ولغة التخاطب، ويزحمون فرص العمل والتجارة، ويشاركونهم لقمة العيش حتى لتكون البيئة الجغرافية للمدينة غريبة عن الكل.
والملحوظ في المدينة أن الغريب ليس للغريب نسيب (كما كانت سلوة امرئ القيس)، بل إن الغربة هي سمة المدينة وهويتها.
وكما أشار «بومان» فإن المدينة التاريخية تعودت على صناعة أمنها عبر بناء الأسوار التي تفصل بين القاطنين والغرباء، ويظل كل من هو خارج السور غريباً، ويبقى من هو داخله جاراً وأهلاً وصاحباً، ولكن المدينة الحديثة عمدت إلى هدم الأسوار لكي تتسع وتزدهر، ممتدة دون قيد، ولم تكن تشعر بالخوف في البداية؛ لأنها استعاضت عن الأسوار بالقوانين وبنظام أمني يطبق القوانين على من يخالف، وكأن القانون سور مفاهيمي يقوم مقام الجدار. غير أن تغيرات نوعية، أفضت لتقليص قدرات القوانين، وكثر تجاوز القوانين بل كسرها والتعدي على الحدود، ولذا لجأ سكان المدن إلى ابتكار أسوارهم الخاصة فوضعوا شبابيك حديدية وكاميرات تحمي المنازل، وصار كل منزل قلعة خاصة، تحمي ساكنها من كل ما هو خارج المنزل، وتساوى الشارع مع بيت الجار فكلاهما أجنبي وغريب، وكل غريب مريب.
هنا فقد الإنسان المدني ذاكرته مع زمن الريف والقرية، وصار يحن للريف كذكرى رومانسية، لكنه لا يريد العيش في الريف رغم طمأنينة الريف وشقاء المدينة؛ لأن العامل الاقتصادي والثقافي لا يتحقق إلا في المدينة، مهما كانت غربة الحال وتوتر العلاقة وصعوبة الحركة وكلفة المعاش، أي أن الإنسان يختار شقاءه من أجل ازدهاره. وتنتهي المدينة بأن تكون مفتوحة للكل، ومن داخلها منغلقة على وحدات صغرى تعيش بانكماش قسري.