نجحت القنوات التلفزيونية، بالاتفاق مع وكالات الدعاية والإعلان والتسويق للإنتاج البرامجي، في تحويل شهر رمضان المبارك، إلى موسم ترويج وتسويق للبرامج والأعمال الدرامية، يتسابق فيه المنتجون مع المعلنين ووكالات التسويق، للظفر بالفوز في الحضور خلال الموسم الرمضاني، عبر الشاشة كعرض حصري أو عرض أول أو عرض ثانٍ.
ومع مرور الوقت، أصبح الموسم الرمضاني هو المعيار الفني الحقيقي للمنتج والفنان والمخرج والكاتب، الذين أصبحوا يتسابقون من أجل العمل في رمضان فقط، وتزدحم أوقاتهم بالحجوزات، وفي هذا الوضع، تعطيل لحركة الإنتاج البرامجية المعتادة، وهي المرتبطة بفصول السنة، أي بمعنى أن الإنتاج على مدار العام. وبقدرة قادر تحول الإنتاج برمته إلى العمل في رمضان فقط، إذ تُحشد كل القدرات والطاقات وبخاصة العناصر الرئيسية من منتج، كاتب، فنان، مخرج لهذا الموسم، وتبرم الاتفاقات مع القنوات من أجل رمضان، وكذلك مع الفنانين والمخرجين والكتاب والمنتجين.
وبالنظر إلى ما أشرت إليه، تكوّن لدينا مفهوم العمل الرمضاني موسمياً للعناصر الرئيسية، فيما ضعفت حركة الإنتاج الطبيعية، في ظل نشوء وبروز مفهوم جديد في الساحة الإنتاجية، وهو الموسم الرمضاني الذي تنامى بصورة ملحوظة، حتى أصبح عرفاً فنياً مسلّماً به. إذ نشاهد على مدار العام التحضير المطلق لهذا الموسم، الذي تتكدس فيه الأعمال عبر الشاشات التلفزيونية، وفي خضم ذلك تضيع كثير من الأعمال البرامجية والدرامية الجيدة، لكونها لم تحصل على فرصة المشاهدة في الأوقات المتاحة التي استولت عليها، برامج (التوك شو) في أوقات العرض الرئيسية، التي تعرف بأوقات الذروة. ونتيجة لذلك فإن المشاهد بات مدركاً تماماً للعبة، وهو بحكم كونه المتلقي فإنه ينتظر هيكل البث اليومي، ليقوم باستعراض سريع لما تم إنتاجه لتحديد الأعمال والبرامج التي سيشاهدها في رمضان، فيما يغادر قوائم الإنتاج الأخرى إلى وقت لاحق نظراً إلى ازدحام روزنامته الرمضانية بطقوس عدة، يفرضها إيقاع الشهر المبارك، وهو ما جعل الماراثون الرمضاني يركض في مضمار بلا فائدة مرجوة، لا سيما أن الازدهار، الذي عاشته كثير من القنوات العربية التي روجت لمفهوم كهذا، ووصل الأمر فيها إلى التحكم بدوائر الإنتاج في قطاعيه العام والخاص، عطفاً على ارتفاع سعر الإعلان التسويقي في شاشاتها، قد سبب خللاً فاضحاً للعمل التلفزيوني أياً كان نوعه.
وبعد مرور عقدين أو أكثر على هذه اللعبة، التي نسجت خيوطها شركات الإنتاج والدعاية والإعلان، التي أقنعت قنوات العرض التلفزيونية، بجعل شهر رمضان موسماً يتسابق فيه الجميع، لتقديم ما لديهم دونما وازع من ضمير مهني ومراعاة لطبيعة الشهر المبارك، الذي بات بين ليلة وضحاها وجبة دسمة للمتلقي، الذي يتسمّر أمام شاشاته المفضلة متنقلاً بجهاز الريموت، لمعرفة وتذوق سلة رمضان البرامجية الكاسدة إلى حد كبير، الأمر الذي جعل المتلقي يحدد احتياجاته مبكراً، ويتنازل عن باقي الحصة المعروضة في السوق التلفزيونية، في هذا الشهر، قد ألقى بظلاله على تطلعات القائمين الذين ارتبطوا ذهنياً ونفسياً ومهنياً بموسم العرض الماراثوني في رمضان، مما نجمت عنه ولادة العديد من علامات الاستفهام، التي كانت مخرجاً في مغادرة الماراثون إلى العرض خارج هذا السباق.
وأنا، كاتب هذه السطور، قد التقيت بعدد من المخرجين والفنانين أشاروا إلى أن العمل، خارج موسم رمضان أفضل، بل إنه يدر ربحاً جماهيرياً وإعلامياً، يلبي احتياجات الفنان والمنتج. إذاً هل سيصمد هذا الماراثون الرمضاني في المستقبل القريب؟ وكيف ستعالج القنوات التلفزيونية هذه المعضلة عطفاً على وعي الجمهور الملموس والمؤثر؟ وإن غداً لناظره قريب.