ما كنت أعرفها إلا صورة في شاشة تلفزيون عتيق بحجم عِجل، أو صوتاً عبر راديو ترانزستور يرتدي جلداً بني اللون؛ أمينة.. نيران.. محبوبة.. رقيَّة.. مبروكة.. طيبة.. أميرة.. سعاد بنت عبد الغني شربت.. إلى آخر الأسماء التي تقمَّصَت شخصياتها وأنماط تفكيرها وسلوكها مسرحاً وتلفزيوناً وإذاعة حتى يومنا هذا. ما سعيت لمعرفتها قط، فأنا أحب أن أحتفظ بمحبتي وفق مساحة لا يشوِّهها الواقع. ما أدراني كيف تكون في الحقيقة؟ ماذا لو كانت شخصياتها المنتحلة في أعمالها أقرب إلى القلب من شخصيتها الحقيقية؟
سعاد عبد الله، وسوف أتجاوز الألقاب لأن من يعرف «أم طلال»، يوقن أن الألقاب تضيق بمثلها في وقت يخلع فيه الآخرون ألقاباً على أنفسهم، تلك التي تتورَّد وجنتاها خجلاً إذا ما قيل إنها «سندريلا الشاشة»، تلك التي تطبق أذنيها بكفّيها إذا ما استمعت إلى صوتها تغنّي في «سكتش» غنائي قديم: «والله جُرأة!»، تنتقد نفسها على خوضها تجربة الغناء في قوالب تمثيلية، رغم أن كل من أنصت إلى صوتها استحسن أداءها، وصارت بعض جملها بمنزلة أمثال شعبية نردِّدها وفق المناسبة؛ «چـذيه دمِّك خفيف؟ مصيبة!»، «مات رَيلي مات رِيلي»، «يتكُم بقعة الزيت»، «عاد يا شين اللي لي وعَد نِكَر».
في 2013، بعد إعلان جائزة أدبية حظيت بها إحدى رواياتي، تلقيت كثيراً من الاتصالات، من رجال سياسة بالدَّرجة الأولى؛ أعضاء برلمان ووزراء وسفراء، ولأني أحب رجال السياسة كثيراً.. لا أتذكر اليوم أحداً من المتصلين ولا كلماتهم المنمَّقة! لا أتذكر إلا صاحبة الاتصال: «ألو سعود، مبروك يا يُمَّه.. أنا سعاد عبد الله.. يا يُمَّه إنت حسستنا إن الكويت رجعت..». لم أفه بكلمة مفهومة وأنا أغالب عبراتي بين الكويت التي رجعت، وبين صوت مألوف يعرفه الكل، ولكنه في تلك المرة يحدِّثني وحدي. استدركت إزاء خيانة صوتي وختمت مكالمتها سريعاً: «أدري يا يُمه منت قادر تتكلم.. بس حبيت أبارك لك».
حظيت بالعمل مع أم طلال، وتعرَّفت إليها عن قرب، لست بصدد الحديث عن إمكانات فنانة مخضرمة، تحترم تاريخها، تركت شخصياتها نقوشاً في ذاكرتنا الجمعية، فنانة تخلص للدور الذي تؤديه على نحو يثير الدهشة والإعجاب، إنما أتحدَّث عن إنسانة حقيقية تعي تماماً مقدار مسؤوليتها. لا أنكر أنني زعلت مراراً بسبب إمساكها بالقلم تشطب جملة تتخلَّلها شتيمة كتبتها، ولكنني سرعان ما ابتلعت زعلي وقت أطبقت الأوراق بين يديها: «يا يُمَّه هذا مو كتاب يقرونه النخبة، هذا مسلسل أدخل فيه بيوت الناس»، تقول إنها لا تريد لطفل أن يتعلَّم شتيمة مجانية تستطيع أن تقولها من دون أن تلفظها. وفعلت، أوصلت كل الشتائم في النص تعبيراً من دون أن تفوه بها.
سعاد التي تعتذر لكلّ خادمة تمرّ بها صدفة، تبرِّر قسوتها على الخدم في دور «ماما غنيمة»، سعاد التي لا تكتفي بمشاركة الناس أفراحهم، بل تراها في كل عزاء قريبة من الجميع كما لو كانوا أفراد أسرتها، سعاد التي تتحرَّى انتهاء تصوير مشهد قست فيه على إحدى الممثلات دفعاً أو ضرباً، لتعانقها: «آسفة.. آنا مو چـذيه.. والله آسفة». سُعاد التي توقف تصوير مشهد يمثِّل احتفالات العيد الوطني؛ لأنها لمحت علماً كويتياً على الأرض، يطمئنها المصوِّر: «العلم خارج الكادر.. لن يظهر في التصوير»، تحنق أم طلال: «لا علاقة لي بالتصوير.. علم الكويت على الأرض!»، يرفع العلم وتعود سعاد لأداء الدور.
أم طلال.. الأم، الإنسانة، المثقفة.. ضاقت الصفحة، ونسيت أن أقول: «نحبُّك».