حين يطلّ المرء على حياته؛ ليتأملها، يجد أن أصدقاءه هم رياحين العمر وياسمينه. هم جنائن الروح، بهجة النظر وراحة النفس. يفرشون أيامه بالمحبة والخير. هم غيمات تظلله في هجير الحياة ورمضاء المحن، يبقون معه حين يرحل عنه الكثيرون. قد تزيد فضائل الصديق وخصاله إن كان ممتع الحديث، يطيّب الأوقات بما يفيض منه من مرح وخفة ظلّ، تجعل مجالسته متعة، ووجوده باعثاً على الإيجابية.
تطالعنا الدراسات المتابعة لحالات مجموعات من الأشخاص، التي ترصد على مدار عقود إنجازاتهم وإخفاقاتهم، لتحدد أسباب سعادة الشخص وهنائه، أنه ليس المال مع أهميته، ولا العمل رغم حاجة الإنسان له؛ كي يكون فاعلاً ومسهماً في هذه الحياة، لكن الأصدقاء هم أحد أسباب السعادة الحقيقية، فهم من يشاركونه أفراحه وأتراحه، من يقفون معه إن أدبرت الدنيا عنه؛ ليصبحوا عوناً له لا عوناً عليه. يبلغ من نبل بعض الأصدقاء ومدى شفافيتهم ومعرفتهم ببعضهم بعضاً، أن يقضي أحدهم حاجة صديقه قبل أن يطلبها منه. الأصدقاء هم الكنز المخبوء في وجه الشدة والكرب. قد يبالغ بعضهم بأن يجعل صديقه صمام الأمان لذاته، فيقول له إن وجوده في حياته يكفيه ويغنيه، ومن ثم يصبح صنواً للنفس وشقيقاً لها، وهنا مكمن الخطر، فبرحيله لأي سبب سينهار المرء.
وإن كان القريب صديقاً، اكتملت المحبة، فما أجمل الأخ والزوج والأخت والعم وغيرهم من الأقارب حين يكونون أصدقاء، وإن نال المرء صداقة بعضهم فهو محظوظ. وقد قيل إن الصديق لا يحتاج المودة، لكن القريب أولى بالمودة والمحبة، ففضلوا الصديق على القريب، وأعلى المراتب أن يكون القريب صديقاً.
والصداقة الحقيقية تبدأ بالنفس، فليس هناك أروع من أن يحب المرء نفسه، بأن يفهمها، يدرك خباياها من خير ومحاسن؛ لتزيد وتتطور، وما فيها من ضعف أو نقص فيحسنه أو يسده. الصديق الحقيقي لذاته، يعلم سبب وجوده على هذه الأرض، يغوص في ذاته، ليخرج منها بأسباب هنائه، منتهى أحلامه، بفكره وقلبه يحققها؛ ليسعد ذاته، يسهم في هذا الكون بمحبة وخير وعطاء بشغف.