عندما تلتقي كلمتا القراءة والمستقبل في قصص الخيال، غالباً ما يتبادر للأذهان الكرة (الكريستالية) التي تجلس أمامها امرأة لتقرأ المستقبل، ولكنني في سطوري هذه، لا أتحدّث عن ذلك، ولكنني أناقش الهاجس الذي يسيطر على الأذهان، كلّما ظهر اختراعٌ أو تقنية جديدة في مجال ما، وكيف ستقضي هذه التقنية على ما سبقها! وهنا أتحدّث عن المخاوف التي يتداولها كثيرون ولا تخفى على أحد حول أثر التقنيات الذكية على قراءة الكتب وصناعة نشرها وطباعتها.
أدرك جيداً أنه عندما يتم طرح موضوع أثر التقنية على صناعة ممتدة لعقود، فدائماً تكون التقنية المبتدأ ويكون الخبر اندثار أو تراجع أمر ما لمصلحة التقنية وفي موضوع القراءة تراجع أو اندثار أو العزوف عن القراءة والكتب، ولكن كلّ ذلك ليس صحيحاً في نظري؛ لأن (مستقبل القراءة) مشرق بوجود التقنية، وأرى أنها ستزدهر بشكل أكبر مع تطوّر التقنية.
وتحقيق هذا الازدهار في صناعة النشر ومستقبل القراءة ليس تلقائياً، ولكن يتوقّف على أربعة عوامل ومتطلبات في نظري؛ وهي: السلوك الإنساني، وفهم وتوظيف التقنية، وتطوير المحتوى والطرح، وتطوير عقلية الفرصة. فالسلوك الإنساني المعتاد الذي نراه يتكرر حولنا، هو نظرة الأهل والمؤسسة التعليمية للتقنية بكونها منافساً للقراءة وعدواً للكتاب، لذا ينصبّ التركيز على مهاجمة انغماس جيل الشباب وحتى الكبار في التقنية وتمضية ساعات على شاشات الأجهزة الذكية.
قديماً كانت القراءة محصورة باقتناء الكتب أو المجلات أو أشرطة الكاسيت، وكانت القراءة تعتمد على توافر الوقت لقراءة الكتب والتوجه للمكتبة أو القدرة المالية لاقتناء الكتب أو المواد السمعية، إضافة إلى الحواجز المكانية أو الجغرافية. واليوم ظهرت أشكال قرائية غير مسبوقة، مثل: تطبيقات مواجيز الكتب وآخر الإصدارات، وتطبيقات الكتب المسموعة والأجهزة اللوحية التي نستطيع تحميل الكتب عبرها، وحتى في هواتفنا الذكية وتطبيقات التواصل الاجتماعي. وهو ما ارتقى بمساحات القراءة في نظري.
سيسرع البعض ليقول إن القراءة التي توفرها هذه التقنيات والتطبيقات سطحية، ولكن أنا أخالفه الرأي، لأن ما توفره هو ما كانت توفره الكتب. فبعض الكتب تستحقّ القراءة لثرائها وبعضها هزيلة أو سطحية وكذلك استهلاك الناس للتقنية، لذا الحل ليس بالخوف من التقنية والتحسّر على ما ستفعله في القراءة والكتب ولكن استثمارها.
وعلى صعيد فهم وتوظيف التقنية، تمتد المسؤولية لتشمل عناصر المجتمع كافة من حكومة وقطاع خاص وأفراد، وتقع على عاتق دور النشر مسؤولية كبيرة هي إجراء بحوث ميدانية (أبحاث سوق وسلوكية)، تتلمّس تطبيقات التقنية التي يمكن أن تحتضن محتوى دار النشر وكتبها، وتنقله إلى ما يروق القرّاء من مختلف الأجيال، فنضع الكتاب بشكل مختلف في جميع الأجهزة الذكية. وهو ما سيمكن دور النشر من تطوير المحتوى والارتقاء بذائقة القارئ، فمثلاً اعتدنا أن يكون الكتاب من مئات الصفحات، لنحكم من الشكل أنه غني أو ثري، ولكن هذه القاعدة لم تعد صحيحة، فالثراء بالمحتوى وليس عدد الصفحات.
وأما تطوير عقلية الفرصة، فيتطلب منّا أن ننتقل كأفراد ومؤسسات من عقلية المخاطر والتحديات إلى عقلية الفرصة، ولأن التقنية تتغير وتتطور لحظياً لا بُد أن ترتقي دور النشر والمؤسسات المعنية بنشر وتحفيز القراءة، بطريقة رصدها للتحديات والمتغيرات التي تواجه القراءة أو ستواجهها، وتحويل هذه التحديات إلى فرص للارتقاء بالمحتوى وقنوات نشره.
فهل يمكن أن نتفق على أن ننظر إلى شغف من حولنا بالأجهزة الذكية بطريقة مختلفة، بعد آخر سطر في رمسة هذا الأسبوع؟