أتذكرني، مع بدء انطلاق ما أسميناه «الربيع العربي»، في الكويت، في البيت أو الديوانية، أمام شاشة التلفزيون أتتبع الأخبار، بين الأصدقاء أو العائلة، حين كان الواحد منا تونسياً، مصرياً، سورياً، ليبياً، يمنياً.. أو بالأحرى، عربياً كما لم يكن في حياته قط. استعجلناه ربيعاً عربياً، وجاء فصلاً جديداً هجيناً، فصلاً خامساً، لا قِبَل لنا به. فصل كرَّس غربة اللاجئ وتوق المقيَّد في وطنه إلى حرية يمنحها الخارج. ومثل مجيء موجة متأخرة، جاءت الثورتان الجزائرية والسودانية، وأنا ساهم أمام الحشود الثائرة، أخشى أن أبتسم فيلجمني الغد مع تجار الدين وبائعي الأوهام.
مريحة فكرة المؤامرة، ليتني أؤمن بها مسوِّغاً لكل خيبة، لأني لا أستطيع مواجهتي، أو أن أشير بسبابتي إلى صدري: «نحن ضحايا أنفسنا، الآخرون مجرد حجة»، كما تقول الروائية بثينة العيسى.
هذه قصة ولد صغير، كنت أعرفه، لم يتجاوز الثامنة من عمره قبل ثلاثين عاماً. نشأ الصبي في بيت مبني من شعارات. تغص جدرانه بصور الرموز. كان من بين أقرانه في المدرسة، في طابور الصباح، في حرّ الكويت اللاهب، يردد مع البقية: «تحيا الأمة العربية»، ثم بعد عام، انشقت أمته العربية بين مؤيد ومعارض لاحتلال بلاده. تهاوى بيته المشيَّد من شعارات بقدوم هبوب الشمال. انتهى الاحتلال، وانتهت معه أشياء كثيرة، أولها تحية الأمة العربية في الطابور المدرسي. طفى على السطح مفهوم جديد «دول الضد». عادت مدرسته من دون المعلمين والتلاميذ من فلسطين والأردن واليمن والسودان والعراق، خلَت السوق القديمة من بائع القماش اليمني، ولم يعد بائع المثلجات الفلسطيني يطوف بعربته في شارعهم ينادي الأطفال، وصار من المستحيل زيارة أقاربه في العراق. حبس الصبي الذي صار شاباً غصته وهو يجتر الشعار القديم. كانت له عين على فلسطين، صار يغمضها عنها وعن العراق وسوريا واليمن ومصر وليبيا والسودان. يعضّ شفتيه حسرة على شعارات آمن بها، ليدرك أن أمته العربية ليست بأمة كما أوهموه.. وأن وطنه ليس وطن صداقة وسلام كما كان يراه.. وأن العراق بلاد الرافدين تشتهر بكل شيء عدا رافديها.. وأن مصر المحروسة بلا حارس.. واليمن السعيد ليس سعيداً.. وتونس الخضراء لا خضرة فيها، وأنه أمام أمة تموت، لا يملك إلا أن يكون ما كانه صغيراً.. يحاول إنعاشها بالشعار القديم وهو يضغط بكلتا يديه على صدرها.. تحيا الأمة العربية!