كان مصطفى صادق الرافعي يكبر مي زيادة بسنوات كثيرة، في رتبة والدها، أحبها بجنون لدرجة الافتتان بها، حتى أصبح يراها في كل مكان، هجر بسببها زوجته، وابتعد عن أولاده الكثيرين، وبدأ يميل نحو جنون غير معلن. الجنون العشقي لولا اللغة التي أنقذته، وتخيله الحي، لانتهى به الأمر إلى أحد مستشفيات الأمراض العقلية. تخيلوا رجلاً عاقلاً متديناً ومفكراً إسلامياً يقطع المسافات الطويلة، بين طنطا والقاهرة، متحملاً متاعب أدخنة القطارات القديمة، والمحطات الباردة، صباح كل يوم ثلاثاء لا لشيء سوى ليستمع لما تقوله مي زيادة. ولا هم له من حضور صالونها إلا الاستئناس بحضورها والكتابة عنها. هل الدافع ثقافي فقط يتعلق بالنقاشات المعاصرة التي ينظمها المهزومون؟ طبعاً لا، بل هو أكبر من ذلك. الممعن في حياة صادق الرافعي يلمس أشياء أخرى تتعلق بطبيعة حبه لمي.
لم يكن خياره سهلاً، فقد كانت مي امرأة شاقة بكل المقاييس، لأن منافسيه كثر، ويوصلون ما يريدونه لمي وتسمع حنينهم ويسمعون قلبها؛ العقاد، خليل مطر، حافظ إبراهيم، طه حسين، لطفي السيد، عبد القادر المازني، داوود بركات، أنطوان الجميل، سلامة موسى، وإسماعيل صبري باشا، وغيرهم كان عليه خوض حرب ضروس لم يكن قادراً عليها في الجلسات. لم تبقَ أمامه إلا الندوة والكتابة شاحذاً متخيله إلى الأقاصي، وتطور هذا الحب بالتواتر إلى أن وصل تقريباً إلى حالة الجنون، أصبح يقتفي خطاها ويحضر كل ندواتها، صار حبه معضلة حقيقية، كان على مي تسيير ذلك بكل التقدير الذي يليق بها. يوم الثلاثاء كان مقدساً بالنسبة إلى الرافعي، يقضيه عندها منذ لحظة وصوله حتى مغادرته المكان، لكن مع الزمن أصبح مقلقاً، كان ينتقل مباشرة من محطة القطار إلى بيتها، ويكون أول من يصل وآخر من يغادر. وكان عليها أن تراعي وضع سمعه المعدوم. لنا أن نتخيل كيف سيكون داخل قاعة كل الحاضرين فيها يسمعون جيداً. كان لا يفهم ما يقال، حتى أصدقاؤه الذين كانوا يساعدونه بالكتابة له حتى يفهم ما يقال. الشيء المؤكد الوحيد أنه كان أصدق عشاق مي، كان لا يسمع شيئاً ويتحرك بوجدانه العميق، وانتقل شعره إلى غنائية درامية وعدم ثقة بالمجتمع، يساير الشفاه ويحاول أن يشتق منها لغة؛ لهذا كتب شعراً كثيراً ودواوين في مي لدرجة أنه تخيلها تبادله هذه العاطفة، مما اضطر مي إلى أن تسر لبعض أصدقائها أنه لا علاقة لها بالرافعي وأنها تقدر عواطفه النبيلة والسخية والإنسانية. مصطفى صادق الرافعي يشكل بهذا كله حالة متفردة في الثقافة العربية. فقد أوغل في حب مي حتى أصبح يتخيلها في كل مكان، حالة من الجنون، لم تسر معه على الوتيرة نفسها. ولكن من هذا الحب الوهمي الذي سكنه، كتب شعراً جميلاً يشكل اليوم رصيده العشقي لمي: «السحاب الأحمر».. و«أوراق الورد».. و«رسائل الأحزان». وخلق لحظات عشقية بينهما. عندما سألها بعض الأصدقاء، نفت كل شيء، وأنكرت وجود أي علاقة من أي نوع بينهما، حتى الصداقة بقيت محدودة وأفسدتها جزئياً مبالغاته، إذ جعل من أحاسيسه الجياشة قصته كلها، وآمن في أعماقه بأنها هي أيضاً تحبه، حالة نادرة في نمط الحب من طرف واحد. ولما وصلت إليها مبالغاته العشقية، بعثت إليه طالبة منه أن يكف عن أوهامه والإساءة إليها في كل مناسبة، فهو كان يختلق الأحاديث والغراميات وحوارات وكلها في خياله. هي كانت في وادٍ وهو في وادٍ آخر. يوم لامته على كلامه وطلبت منه التقليل من زياراته وكلامه، توقف عن الزيارات وعن قول الشعر حتى مات.. متحسراً.