في زيارته الأولى لمكتب أبيه الشهيد بصحبة أخته، يُنقِّل الفتى بصره بين التفاصيل التي خلَّفها أبوه وراءه، يتوقف عند صور معلقة على الجدار، تلقي ضوءاً على شخصية الأب وذوقه ومزاجه، صورة بالأسود والأبيض لرجل عجوز بجبهة عريضة وحاجبين كثّين وشارب أبيض ولحية بيضاء طويلة متشعبة تصل إلى منتصف صدره، صورة ثانية يظهر فيها رجل بالغترة، يبدو عقاله سميكاً بشكل مبالغ فيه، يرتدي معطفاً أخضر داكناً، له شارب أسود كشارب هتلر، ويحجب عينيه وراء نظارة بعدستين دائريتين سوداوين. وصورة ثالثة، على الجدار ذاته، لرجل ممتلئ، يظهر في لقطة جانبية، يرتدي الزي الكويتي التقليدي مع عباءة بنية، له لحية صغيرة بيضاء في منتصف ذقنه. وصورة أخيرة لسيِّدة بالنظارة الشمسية فاغرة فمها تغني أمام ميكروفون، تباعد بين ذراعيها وتحمل في إحدى كفيها منديلاً!
حينما كان الفتى يشير إلى كل صورة من تلك الصور يستفهم أخته «من يكون؟»، كانت أخته تجيب باسم صاحب الصورة مع تعريف مختصر بما يشتهر. فالصورة الأولى للروائي الروسي تولستوي، والثانية للشاعر الكويتي فهد العسكر، والثالثة لأمير الكويت الراحل عبد الله السالم.. ماذا عن الصورة الأخيرة؟ لم تُعِرْ أخته اهتماماً لسؤاله وانصرفت إلى أمر آخر.. هذا اختصار لمشهد جاء في رواية كتبتها قبل سنوات.
كنت سعيداً، وما زلت، إزاء وصول الرواية إلى القارئ المصري، ولعل سبب سعادتي الأكبر هو أنها، في الغالب، نالت الاستحسان كما شعرت من خلال تواصلي مع القارئ هناك. ولكن لفتت انتباهي ملاحظة وردتني من الكثيرين من القراء المصريين الذين استوقفهم المشهد الذي بدأت به المقالة. قال لي أحد الأصدقاء المصريين في الكويت: «لقد تجاهلت عامداً ذكر اسم أم كلثوم!». أجبته: «نعم، وأنت تعرفت إليها رغم عدم ذكر اسمها!». استغربت حساسية الصديق، رغم إعجابي بغيرته ورفضه إزاء ما رآه تهميشاً لرمزٍ من بلاده. الحساسية التي حسبتها محض مبالغة من الصديق إياه لم تكن كما تصورت. وجدت الأمر يتكرر بين القراء المصريين في مواقع إلكترونية مثل «الفيسبوك» و«الجودريدز»، بل وأصبح يلاحقني كاللعنة عبر الرسائل الإلكترونية. ثم وجدت السؤال ضمن أسئلة تضمنها حوار مع إحدى الصحف المصرية، وأخيراً، في إحدى زياراتي إلى القاهرة، رغم كل الحفاوة التي حظينا بها، الرواية وأنا، وجدتني محاصراً بالسؤال: «إيش معنى يعني جَت عند أم كلثوم وسِكت؟!».
صار السؤال يُطاردني مثل لعنة مستحيلة الخلاص، ولأن هناك خيطاً رفيعاً بين سوء التعبير وسوء الفهم أمسكتُ الآن أكتب للقارئ المصري تحديداً.
نعم، عامداً تجاهلت ذكر اسم السِّت، تقديراً وثقةً بشهرتها أولاً، ولإشراك القارئ في النَّص ثانياً، ولن أتدارك الأمر في الطبعات المقبلة للرواية كما طلب البعض. أعد قراءة المشهد، وتخيّل لو أني استبعدت كل الأسماء واعتمدت فقط على وصف الملامح وإيحاءات الجسد في الصور؛ هل سيعرف القارئ تولستوي من جبهته العريضة؟ أو أمير الكويت الراحل عبد الله السالم من عباءته البنية؟ أو الشاعر فهد العسكر من نظارته ومعطفه الأخضر؟ وحدها صورة كوكب الشرق بمنديلها الشهير أيقونة عرفها القارئ دونما تعريف!
أتمنى أن تكون هذه المقالة تعويذةً تبطل مفعول «لعنة السِّت» التي تلاحقني منذ سنوات.

إقرأ المزيد :

وفاء الكبار