كمن يقف في وجه الريح ويوهم نفسه أنه سيوقفها، وعن هذا أمثلة مشهودة في وقوف البعض ضد عصرهم ومستجداته، وليس غريباً أن يكون وقوفهم نابعاً من تحصن ذاتي بنية الحفاظ على التراث والأمة بفرعيها الجوهريين: الدين واللغة، وقد وقف بعض ضد البرقية وضد الراديو و«البسكليت»، ثم ضد التلفاز والجوال والدش، ومثلها تعليم البنات، ثم قيادة المرأة للسيارة، وعلى الضفة الأخرى تمر بنا دوماً لعبة مماثلة (نسقياً) وهي الوقوف ضد المستجدات اللغوية، وجاءت معهم قاعدة سد الذرائع اللغوية عبر عنوان: قل ولا تقل.
والجامع في الوقفتين أنهما معاً لا يفلحان في إيقاف عجلة الزمن، والشواهد أن كل الممنوعات السابقة صارت مباحة، بدءاً من الراديو وتعليم البنات إلى الفضائيات والجوالات، وفي اللغة ظل المنتج اللغوي يتجدد، ويكفي أن ننظر في نصوص الروايات والمسرح ولغة الفضائيات ولغة «تويتر»، وسنرى أن كل محاولات منع التحولات اللغوية لم تفلح في كبح مضي الأساليب والتعبيرات، مهما حاول فقهاء النحو من محاولات لمنع الكلام وحبسه في محبس الوهم بأن الصواب هو ما صوبه أو نطقه أو أقره شخص قبلنا، فإن سبق لواحد من السلف أن قال كلمة أو صيغة فهي صحيحة وفصيحة، وكلما كان تاريخ وفاته أبعد صار أفصح. أما إن كانت اللفظة أو الصيغة من منطوق ومنتوج شخص حي، فستكون لحناً في القول وستكون مشروعاً في خرق جدار الأمة عبر بوابة اللغة، وكلمة من مثل (متواجد) بدلاً عن (موجود) ستكون مثل الراديو حين كان حراماً، ولكن الزمن سيظل الأقدر لجعل كملة (متواجد) تعني (موجود)، عند القائل والسامع معاً، ولن ينتظر أحد منهما إذناً من فقيه نحوي لكي يمنعه ويحرم عليه النطق، تماماً كما ظل أجدادنا يستمعون للراديو ولم يمتنعوا عن نعمة تكنولوجية أسمعت صوت العالم، ولن يقف أحد في وجه الزمن إلا وانتهى بأن يكون مجرد واهم يضحك على نفسه ويعقد من حوله.
تلك حال تصف سلوك النحوي المعاصر وترسم صورته الذهنية العبثية، وكلما وردت عبارات مثل (نحن كمسلمين) هب ليصحح القول: نحن بوصفنا مسلمين أو يعجز عن التفريق بين كلمة التقويم وتعني تعديل وتثقيف العمل، وكلمة التقييم وتعني تثمينه وتقدير درجته العلمية، وعبارة (نفس الشيء) ويصر على تصحيحها بقوله: الشيء نفسه، وسيبحث لنفسه عن علل يحتال بها لدعواه ولكن لب العلل كلها هي أن هذه التعبيرات لم ترد على لسان شخص مات قبلنا ويكون شفيعاً لنا في التلفظ والتفكر، وهذه أمثلة يقاس عليها كل ما يندرج تحت عبثية: قل ولا تقل، أو لعبة (الأخطاء الشائعة) ويكفي وصفها بالشائعة برهاناً على استحالة تعديل مسار الزمن، ومن ثم عبثية التحنط اللغوي والفكري، ولو كان بيد هؤلاء أمر، لمسحوا ثلاثة أرباع التراث العباسي، لأنه لم يرد عند سلفهم، ولم يسلم منهم طه حسين ونجيب محفوظ، وسمعنا كثيراً اعتراضات النحويين على أساليب هؤلاء المبدعين، ولكن الإبداع سلك مسارات الزمن ومرت اعتراضات المعترضين ولم يتوقف الزمن عندهم.

إقرأ المزيد:

طريق البرلمان لا يتسع إلا لجسد واحد