«جيفرني».. إحدى أجمل القرى الفرنسية، تزخر بسحر طبيعة خيالية، ألهمت وراء جمالها، أعظم الفنانين من الرسامين والكتاب والشعراء. قرية جيفرني...الأم التي تحملت شقاوة أبنائها حين كانوا يعبثون بألوان طبيعتها، لتجعل منهم كباراً، ارتبط اسمهم بها، فكانت بيتاً مفتوحاً لأبرز فناني مدرسة الرسم الانطباعي في أوروبا «كلود مونيه»، الذي جعل منها بعدما اصطادته بجمال طبيعتها مقصداً سياحياً وثقافياً، يشار إليه بالبنان في أنحاء العالم كافة.

بعيداً عن ضوضاء وصخب المدن الأوروبية الحديثة، تقع القرية الصغيرة، في إقليم «أور» على بعد 80 كيلومتراً فقط من العاصمة باريس، عدد سكانها لا يتجاوز 600 نسمة، أما مساحتها فتصل إلى 8 كيلومترات مربعة. ولم تشتهر بلدة أو قرية «جيفرني»، إلا عام 1883 حينما وقعت عين «كلود مونيه» رائد المدرسة الانطباعية في فن الرسم، أشهر رسامي فرنسا وأوروبا في القرن الـ19، على نافذة القطار، ليكتشف أجمل ما صور الخالق المبدع في ضواحي باريس، كان يائساً من أجواء الحياة الباريسية التي عاشها في الفقر والرفض، إذ طالما قابلته المؤسسات الفنية في باريس، وتحديداً أكاديمية الفنون الجميلة «ليبوزار» بسبب أمور مادية.

لمسة إبداعية
وقع كلود في غرام قرية «جيفرني»، فكان يحب الطبيعة والحدائق، وانتقل للعيش فيها، فاستأجر في البداية بيتاً بحديقة كبيرة، أضفى عليها لمسته الإبداعية، إذ كان فناناً ومزارعاً بارعاً ويفهم كثيراً بالأمور المتعلقة بالطبيعة الريفية، بسبب نشأته في مدينة «وهافر»، التي كانت تعتمد في ذلك الوقت على الزراعة والفلاحة،  فاستقر فيها مع عائلته، ولم يصبح البيت ملكاً له حتى عام 1893، البيت الذي أصبح اليوم المعلم الثقافي الأشهر والأجمل في العالم، يستقبل أكثر من 500 ألف زائر سنوياً، أغلبهم من الأمريكيين واليابانيين الذين تأثروا كثيراً بأعماله الفنية، لدرجة أن بعضاً من الفنانين والرسامين استقر في البلدة، والآخر كان يكتفي بزيارة كلود. بعد وفاة كلود عام 1926، انتهى ذلك التجمع الجميل للعمالقة، ورث ابنه البيت والحديقة والورشة، وأهدى أغلب لوحاته إلى «متحف مرموتان» الذي تغير اسمه إلى «مرموتان مونيه»، ذلك أنه يضم عدداً كبيراً من لوحات وأعمال كلود مونيه الفنية، أما البقية فتم تسليمها إلى أكاديمية الفنون الجميلة في باريس، التي عكفت على ترميم وإصلاح البيت من خلال إرسال «جيرالد فان ديركومب» الذي اهتم بترميم كل زاوية في بيت أحد الرموز الثقافية والفنية، وأعاد إليها جمالها الذي اختفى في سنوات الخمسينات، حتى أصبح مقصداً سياحياً مميزاً،  زاد من شهرة تاريخ فرنسا الفني، توفي هذا الأخير عام 2001 ودفن بالقرب من كنيسة «جيفرني» حيث يرقد كلود وعائلته.

بيت كلود مونيه
إن كنتم من عشاق الطبيعة، فستشعرون خلال زيارتكم للبلدة، بنفس الأحاسيس التي كان يكنها كلود مونيه لـ«جيفرني» التي كان يصفها بمدينة الأحاسيس الطبيعية، ستذهلون ببيته الذي يعلو النهر بكل شموخ، بيت يعج بأعمال مونيه، ولوحاته الفنية المعلقة في كل زاوية فيه، وحتى جدار المطبخ، الذي يطل بنافذته الصغيرة على بركة الماء التي تتوسط حديقته، تلك البركة التي حفرها ليفاجأ بتسرب مياه «نهر اللوار» إليها فتمتلئ، وتتشكل بفعل الطبيعة إلى تحفة فنية نادرة، تتراقص فوقها زنابق الماء وأزهار البنفسج التي كان قد غرسها، يتوسط البركة جسر يربط بين الضفتين، أطلق عليه كلود اسم «الجسر الياباني»، الجسر الذي لا يمل من عشاق التصوير الفوتوجرافي من الوقوف على عتباته، والتقاط أجمل الصور، كتلك الشبيهة بلوحة «المرأة اليابانية وهي تحمل مظلة» متأملة في جمال المكان، وهي من أجمل ما رسم كلود، الذي زرع وغرس نباتات مختلفة الألوان والأحجام في حديقة بيته،  تلك التي جاءت في معظم أعماله الفنية، التي تكشف عن موهبته البارعة في هندسة حديقة بيته الخيالية المكتظة بجمال الطبيعة ولونها الفاتن، أما البركة الساحرة، فكانت كافية لتلهم أكبر رواد مدرسة الانطباعية في فن الرسم، ستستحضر خلال زيارتك للمكان، أنفاس كلود التي كان يستنشقها مع كل لحظة شروق للشمس، كيف تعانق السماء بركة الماء في حب عذري، لترسل أشعتها وانعكاسها الضوئي على سطح الماء، وترسم أشكالاً عجيبة، ستعذر كلود الذي كان قليل الخروج من بيته، كان يهتم برسوماته، وبحظيرة الدجاج المجاورة لبيته، لا أعتقد أن ذلك كان وراءه اكتئاب مثلما كتب وروى البعض، فلا يمكن لتلك الطبيعة المحيطة به أن تكون إلا سبباً من أسباب سعادته المطلقة، حيث كان يكفيه البقاء في ورشته المفتوحة على الهواء الطلق، ليسترسل بإبداع لا حدود له في الرسم والتخيل.

معالم جميلة
تنفرد (كاتدرائية سانت رادوجوند في جيفرني)، بأهمية بالغة لدى أهالي المنطقة، فهي الكنيسة نفسها التي دفن خلفها كلود مونيه وعائلته، يعود تاريخ بنائها إلى العصور الوسطى في أوائل القرن الـ11، أي إلى العهد الروماني، وكانت تسمى بكاتدرائية «جابريناكو»، نسبة إلى نظام الحكم الجالو روماني آنذاك، فيها ممرات شمالية وجنوبية، تضيئها نوافذ زجاجية ملونة، وتزين واجهتها رسومات تحمل شكل طائر السنونو المهاجر، الذي يعتبره السكان، طائراً مباركاً يرافقهم في صلواتهم ، في ذلك المكان المقدس والروحاني، تطل نوافذها على عدد من التلال الجميلة، تزينها الأعمدة الخشبية ذات الطابع الريفي، وتحفها حديقة واسعة بها أجمل أشجار الصفصاف والصنوبر.
يقع بجانب الكنيسة في «ساحة بودي» متحف تراثي، يطلق عليه اسم «متحف الميكانيك»، تعرض فيه مجموعة كبيرة من محركات الجرارات البخارية، وعدد من السيارات الكلاسيكية القديمة، ويفتح للزائرين تحت مسمى «فعالية الأيام التراثية».

الفصول الأربعة
تتميز «جيفرني»، بالطابع الريفي الجميل، الذي يتغير وفق تغير الفصول الأربعة، جميلة بجميع المقاييس وفي كل الفصول، أما الربيع فأفضلها، ستكشف عن بيوتها الخشبية الصغيرة المتفرقة على مساحات شاسعة من التلال الخضراء، تتخللها حقول العنب ومراعٍ خصبة تعتبر مصدر عيش سكانها، الذين يعتمدون على القطاع الزراعي بدرجة كبيرة، وعلى صناعة البيوت البلاستيكية للخضروات العضوية، وكذلك على تربية المواشي ومنتجات الألبان والأجبان، شأنها شأن أغلب القرى الموجودة بمقاطعة نورماندي وضواحيها. كما يعتمدون شتاء على تقطيع حطب التدفئة من الأشجار الجافة، وبيعه للمدن المجاورة، فما يميز جيفرني طابعها الغابي الموسمي الجميل، وتكثر فيها الطيور على اختلافها، ستستمع إليها وأنت تتجول بين أشجارها، تعزف أفضل ألحان الطبيعة، يتنقلون في مجموعات، تراهم من بعيد وكأنهم سراب يتشكل مع تشكل السحب.

مهرجان الرسم
يحتفل سكان «جيفرني»، بعدد من المهرجانات، أبرزها مهرجان «موسيقى دو شومبغ»، وهي موسيقى محلية تعتمد على معزوفات الساكسفون التي تتناغم مع جو الطبيعة الرومانسي والهادئ هناك. أما أكبر المهرجان فهو ذلك التي تنظمه بلدية نورماندي، حول الفن الانطباعي في الرسم، لما تحمله من خاصية إقبال العديد من الرسامين والفنانين الذين ينتمون إلى هذه المدرسة، إلى مناطقها خاصة، يلتقي المشاركون خلال هذا المهرجان في منطقة الروين، على ضفاف نهر السين، ويعرضون أعمالاً فنية لأكبر الفنانين، متقمصين شخصياتهم، وعارضين نسخاً عن أعمالهم؛ دلالة على وفائهم وتقديرهم الكبير لهذا الفن، وما قدموه من أجل المنطقة، كما يرافق المهرجان، تقديم مهارات في فن الرسم، ومناقشات فكرية حول تأثير ضوء الشمس على مخيلة الفنان، وكيفية استخدامه بشكل يوحي أنك ترى صورة حقيقية عوضاً أن تكون رسماً، وتفاصيل أخرى تتعلق بفن الرسم الانطباعي وحتى التجريدي.