يحدث أن تُغرم بنتاج مبدعٍ ما، إلى درجةٍ تدفعك إلى تحاشي لقائه في الواقع كيلا تُفجع بشخصية لا تُشبه نتاجها. حدث ذلك معي كثيراً، فآثرت عدم الاقتراب ممن أحببته عن بُعد.
دفعتني الصدفة، قبل أسابيع، لأن أكون ضمن فريق إعداد لليلة تكريمية للشاعر القدير عبد اللطيف البناي، بمناسبة مرور 50 عاماً توَّجت عطاءه الفني يوبيلاً ذهبيّاً، ولا يصح التكريم، كما ارتأى فريق الإعداد، دونما إشراك مُجايلي الشاعر ورفقاء دربه الطويل. منحتني التجربة الاقتراب من أناسٍ أحببتهم مُذ طفولتي، أعرف بعضهم شخصيّاً وأجهل جلَّهم، وكنت قلِقاً إزاء الاقتراب منهم لئلا يكشف لي الواقع ما لا أُحب فيمن أحببت.
ما رأيت في التجربة من الكبار إلا ما جعلهم كباراً بتواضعهم ووفائهم وعفويتهم في التعبير عن مشاعرهم تجاه بعضهم والآخرين. شيءٌ لا يشبه ما يشوب علاقاتنا جيل اليوم.
اللاعب الدولي السابق جاسم يعقوب يجرُّ خُطاه الثقيلة من مدرجات استاد جابر الأحمد، رغم اعتلال صحته، إلى منتصف الملعب، لكي يصور لقطة لا تتجاوز الدقيقة يتحدَّث فيها عن مشاعره وقتما سمع الأغنية التي كتبها البنَّاي أثناء سفره للعلاج قبل سنوات طويلة. «كنت حريصاً على أن أكون قويّاً أمام جماهيري ولا أضعف أمام الشَّلل، ولكنني بكيت عندما سمعت: متى يعود الجوهرة؟ الكويت كلها تنظره». وبعدما أنهى المخرج التصوير انسحبَ أسطورة كرة القدم الكويتية يجرُّ خُطاه إلى خارج أرضية الملعب الخضراء، يرد على كلمات شكرنا: «غنتني الكويت بكلمات هذا الرجل، لا تشكروني على مجيئي».
وفي بيت البنَّاي جاء الملحن القدير يوسف المهنا من أجل التصوير، وفور دخولِه انحنى يُقبِّل البنَّاي على كرسيه المتحرِّك، وضع كفَّيه على كتفي البنَّاي يسأله مُستنكراً لباسه الصَّيفي: «بوناصر! تدفَّا، الجو بارد يا خوي». كنتُ صامتاً أرصد تعابير الوجوه وأنعم بلحظاتٍ من المحبة غير المفتعلة وقت يخاطب واحدهم الآخر.
الراقية سعاد عبد الله، اقتطعت وقت تصوير مسلسلها الرَّمضاني، كما لو أنها تلبي نداء واجب، لئلا تفوِّت فرصة المشاركة بكلمة للشاعر الذي زامنها سنوات طويلة في كثير من مقدِّمات مسلسلاتها الدرامية.
وضع الجميع من شفافية مشاعره في التحضير لليلة تكريم الشاعر عبد اللطيف البنَّاي في مركز الشيخ جابر الأحمد الثقافي، مما أضفى هالة من محبَّة أحاطت الجميع، الملحنين القديرين سليمان الملا وأنور عبد الله، هدى حسين التي لبَّت الدَّعوة محبَّة، الكبير عبد الكريم عبد القادر الذي أذهل الكل بفائض محبَّةٍ طفح بها هدوؤه، نبيل شعيل وخفَّة روحه وسعادته بتلبية الدَّعوة وكلماته الممتنة للشاعر الذي راهن على صوته قبل سنوات بعيدة، عبد الله الرويشد الذي زاده سقوطه على المسرح ارتفاعاً في عيون مُحبِّيه وقتَ ارتفعت أصوات من بين الجماهير وهو يتعثَّر: «اسم الله عليك!». وعبد اللطيف البنَّاي الذي عاد إلى بيته بعد أمسية التكريم يُنشد قصيدة للرويشد ختامها: «طحت انتَ، واحنا اللي تعوَّرنا».
كم من درسٍ يمنحك إياه الكبار من دون تلقين، لتدرك أن لا شأن للسِّن في جعل الإنسان كبيراً، إنما هو الصدق في التعبير عن المحبة والامتنان.