هل الرقابة ممثلة بأجهزة الدولة، وحدها، هي العائق الحقيقي أمام المبدع؟ أم أنها مع استمرارها في غيها قد أحالت المبدع رقيباً ذاتياً، والمجتمع رقيباً آخر أشد فتكاً!؟
تبادر هذا السؤال في ذهني، وأنا أحضر بروفات عمل مسرحي وطني شاركت بكتابته، ومن المقرر عرضه على أحد أكبر مسارح الكويت، حيث تتّسع مدرجاته لألفي مقعد. توقفت عند أداء أحد الممثلين وهو يلقي قصيدة للشاعر الراحل محمد الفايز، كان أداؤه مقنعاً لولا ما ابتلعه من نص القصيدة التي يخاطب فيها البحَّار زوجته أمينة: «صرخات طفلك في الظلامِ أتسمعينه؟ نهداكِ ملؤهُما الحليبُ وأنتِ ظمأى تُرضعينه».
جاءت القصيدة على لسان الممثل بلا نهدين ولا ظمأ ولا حليب على نحو لم أفهمه، «لعل الشطر قد سقط سهوا!؟»، قلت في نفسي أُقنِعها قبل استراحة البروفات. وفي الاستراحة ارتقيت خشبة المسرح أطلب من الممثل إعادة إلقاء القصيدة الواردة في نص السيناريو، ولكنها جاءت، كما سمعتها ساعة التدريب، مبتورة!
وعند سؤالي عن الكلمات المفقودة أجابني يهز رأسه ويلوح بيديه: «لا تحاول». أحاول ماذا؟ أخبرني أنه يحرص دائماً في أعماله على عدم الخوض في الدين والجنس، وأمام دهشتي استدرك يقول إنه يعرف أن لا علاقة للدين بالمقطع الشعري، ولكنه الجنس! أطبقت كفي على كفه آخذه إلى زاوية المسرح في حديث انفرادي، استدرجته لإلقاء القصيدة، أحرضه على إتمامها كما لو كنت أُحفِّظ تلميذاً أنشودة مدرسية، قلت: «عيناكِ تحت ضيائها الفجريّ تُشرق يا أمينة.. صرخات طفلك في الظلامِ أتسمعينه.. ها؟..»، ولكنه عاود هز رأسه رافضاً: «لا تحاول!».
ولكني حاولت كثيراً إقناعه بأن سياق القصيدة أبعد ما يكون عن الجنس، إنما يحاكي الشاعر أحاسيس الأمومة في زمن القحط، وأن تجاوز الكلمات يؤثر في سلامة النص المكتوب داخل إطار قصائد الشاعر الراحل محمد الفايز، وأن ديوان الشاعر قد تمت طباعته في مطابع وزارة الإعلام عام 1962، وما زال يطبع حتى اليوم، ما يعني بالضرورة أن الديوان مجاز من قبل الجهاز الرقابي في الدولة.
كنت أتحدث وهو يهز رأسه جامد الملامح ينتظر أن أنهي مرافعتي. وفور ما انتهيت وضع كفه على صدره:
«فلنفترض أني اقتنعت..»، ثم أشار بكفه إلى مقاعد الحضور الفارغة:
«من يقنع ألفي مشاهد!؟».
«نحاول»، قلت له، ولكنه صمت يمشط المقاعد بعينيه، وقد بدا فزعاً، قبل أن ينهي:
«لا تحاول».