ما زلت أتذكر أول قصيدة موزونة كتبتها في حياتي. حدث ذلك حين كنت في الصف العاشر، إذ اكتشفت علم العروض وشغفت به، وأصبحت ماهراً في تقطيع الأبيات وتسمية البحور، لأمتلك أخيراً الأدوات اللازمة لكتابة قصيدة أترجم بها مشاعر المراهقة الجياشة. أول ما فعلته بعد الإمساك بالورقة والقلم هو فتح المعجم، فقد كانت فكرتي عن الشعر تتمثل في أنه لا بد أن يحوي العديد من الكلمات المنمقة والصعبة التي تسبب شداً عضلياً وعسر هضم، متأثراً بفطاحل الشعراء ومعلقات الجاهلية، كما في: (وفرعٍ يَزينُ المَتنَ أسودَ فاحمٍ…أثيثٍ كقِنو النخلةِ المُتعثكلِ).

وهكذا كانت استراتيجيتي في الكتابة هي اختيار بعض الكلمات «الخنفشارية» وفهم معانيها وصياغة أبيات منها. ومع أنني أضحك الآن على قصيدتي تلك، إلا أنني ممتن للمعجم الذي منحني الكلمات، وساعدني لأخطو الخطوة الأولى إلى عالم الشعر الذي لم أبرحه من يومها. ومن الشعر إلى السينما، نتعرف في فيلم The Professor and the Madman إلى الرجال الذين يقفون خلف هذه المعاجم التي قدمت خدمة جليلة للغة والبشرية.

صداقة استثنائية
تدور أحداث فيلم The Professor and the Madman في منتصف القرن الـ19، ويتناول قصة الأستاذ (جيمس موراي) الذي يكلف من قبل إدارة «جامعة أوكسفورد» بجمع كل الكلمات المتاحة لإصدار الطبعة الأولى من قاموس أوكسفورد للغة الإنجليزية، ومعنى ذلك أن كل كلمة يجب أن يرافقها معناها وأصلها ومشتقاتها وتسلسلها التاريخي، ومهما اختلفت اللغات؛ فإن كل لغة هي (البحر في أحشائه الدر كامن) كما يقول حافظ إبراهيم، مع قبلة على رأس لغتنا الأم. ولأن مهمة شاقة كهذه تتطلب تضافر الكثيرين؛ يطلب البروفيسور موراي من الشعب في أنحاء المملكة البريطانية بأن يبعثوا إليه بالكلمات التي يتداولونها في حياتهم اليومية، مرفقة بمعانيها، لتصل مناشدته إلى الدكتور الأميركي (ويليام ماينور) المسجون في مصحة نفسية، لارتكابه جريمة قتل بالخطأ، مدفوعاً بوساوسه الجنونية، ليصبح المجنون ماينور هو الورقة الرابحة للبروفيسور موراي، والمنقذ لمشروعه الضخم، إذ يمتلك قدرة خارقة على تذكر الكلمات المستعصية واقتفاء أثرها في النصوص والقصائد القديمة، وهكذا تنشأ علاقة صداقة استثنائية بين البروفيسور والمجنون.

 أوسكاريّان.. معاً
لأول مرة أرى النجمين ميل جيبسون وشون بين، يتشاركان بطولة فيلم واحد، وفي رأيي أن 70% من قوة الفيلم تكمن في أدائهما المتقن الذي لا يزيد ولا ينقص عمّا يتطلبه الدور، ولا عجب في ذلك فكلاهما أوسكاريّان، فـميل جيبسون حائز «أوسكار أفضل مخرج» عن تحفته Brave Heart، وشون بين فاز بـ«أوسكار أفضل ممثل» عن دوره الاستثنائي في فيلم Milk. كما تُشاركهما التمثيل النجمة ناتالي دورمر، التي يعرفها أغلبنا باسم (كوين مارجري) في مسلسل Game of Thrones. أما مخرج الفيلم فهو الأميركي الإيراني الأصل فرهاد سافينيا، الذي يظهر متمكناً في هوليوود على الرغم من قلة أعماله المعروفة.
(الجنون أعطانا الكلمات) يقول الدكتور ماينور في الفيلم، ملخصاً هذه المهمة شبه المستحيلة في احتواء اللغة بين دفتي كتاب، وإن أفلتت منا اللغة يوماً أو غلبتنا فهذا لا يعني فشلنا، فمن أعمق ما قيل في الفيلم هذه العبارة: (لا يمكن للغة أن تبقى على حالها.. ليس إن كانت، تنبثق من الحياة).

تذكرة لي ولكم
توصية لبعض أفلام ميل جيبسون:
 Braveheart
 What Women Want
 Edge of Darkness

توصية لبعض أفلام شون بين:
Mystic River
Milk
21 Grams