اللغة العربية حضارة مسكونة بالموسيقى والنغم، إذ تحمل كلماتها في داخلها جرساً لا تخطئه الأذن، وإيقاعاً يتهادى بين السكون والحركة، ويتراقص بين الضم والكسر والفتح، يرفرف حيناً في السماء، ويتساقط حيناً «كجلمود صخرٍ حطَّهُ السيل من علِ»، ثم يتأرجح في أحيان أخرى بين المد بالألف والياء والواو.
إنها موسيقى اللغة، حيث انسكبت الأرواح في جسد الشعر، حتى غرقت في بحور وأوزان لا تضاهيها بحور أخرى في بقية لغات العالم وأشعارها، وبضفتين، فصيحة ونبطية/عامية، وهكذا، توشحت الكلمات بسحر الصوت والنغم.
في هذه المنطقة، التي شهدت حضارات عديدة منذ مئات القرون، نمت اللغة، ونبتت إلى جانبها اللهجات، وأزهر كلاهما بالشعر، وصدحت أصوات البشر بغناء هذه الأشعار، على ظهور الإبل، في البحر، في الأرض، في البيوت، على سفوح الجبال، في أثناء التنقل والترحال والعمل واللعب والفرح والحزن والغياب والانتظار والعودة.
كان الكل يغني، وكان في الغناء حياة.
كانت الأغنية موسيقى الطفل قبل أن ينام، وشكلاً من أشكال لغة الحب بين الأم وطفلها، تماماً كلغة الحب بين الفلاح وأرضه، وبين البدوي وناقته، وبين البحّار ومركبه، وبين الفارس وفرسه، وبين الإنسان والطبيعة. ولأن الأوّل لم يكن يملك في الماضي أدوات موسيقية كثيرة، اعتاض عنها في أغلب الأوقات بصوته، وانطلق ليزاوج بين الكلمة واللحن، مردداً أغاني الحياة التي التصقت ببيئاته ومراحله العمرية كافة. إذ كان يُغَنّى له في مهده، ثم في فترة حبوه، ثم مع أول خطواته، ثم تعلم أن يلعب ويغني، ثم كبر، وتكفل بالغناء للأرض والطبيعة.
كانت الأم تمشط شعر ابنتها وتضمخه بالطيب الممزوج بصوتها وهي تغني لها. وكان الكبار يغنّون أحياناً كي لا يشعروا بالوحدة.
كان للكلمة عطرها، وللأغاني عبقها.
فكم كنّا نحتاج إلى الغناء كي تغدو أرواحنا أكثر تصالحاً مع الحياة والتعب، وأكثر احتفاء بالفرح والإنجاز.
وكم كنّا، وما نزال، نحتاج إلى الغناء؛ كي ننمو ونحن نحب الحياة.