كلنا نشعر بالمتنبي ونحفظه ونردد أبياتاً من شعره، تواترت على كل الألسن، حتى لنكاد نجزم بأن بضع عشرات من الأبيات له تجمع الأمة على حفظها، ولا تعرف باقي شعره، ونسبة ضئيلة من ديوانه هي الباقية حتى اليوم وليس من أثر للباقي، وهذا إحصاء له ما وراءه من مؤشر خطر على ذهنيتنا الثقافية، فمعظم المرويات تشير إلى أن تصوراتنا الثقافية ما زالت تنتمي إلى فترة القرن الرابع الهجري (أنا الذي، ومن نكد الدنيا، العرب تعرف والعجم، أنا الطائر المحكي، هل في الكأس شيء أناله... إلخ)، وهي جمل نسقية موغلة في نسقيتها وذاتيتها، وكانت تمثل ذهنيات ذاك الزمن، وتردادها اليوم من دون نقدها وكشف نسقياتها يشير إلى سلطة النسق على ذاكرتنا الثقافية حتى لتصبح عظمة اسم المتنبي وقاءً ضد نقده، من جهة، كما أن مقولاته تظل تنتج شخصيته الشعرية فينا ـ مع كل عيوبها النسقية - حتى لتكون مفخرة ثقافية أن يقال عن شاعر ما إنه متنبي عصره، وهنا المفارقة المعيقة ذهنياً حين نتصور أن كل القرون التي تفصلنا عن المتنبي لم تحركنا خطوة واحدة لتجاوز قامة المتنبي، وكأن عصرنا الحديث بكل انفجاراته المعرفية والشعورية لم تغير من الشخصية العربية شيئاً.
العلة في هذا هي في سيطرة المحفوظات الشعرية علينا عبر غرسها في نفوسنا منذ المدرسة المبكرة من أعمارنا، فما إن يتعلم الطفل فك الحروف حتى يبدأ تلقينه بأبيات يتوارثها ثقافياً عن أجيال سبقته، ولم تتشكل في هذه الأجيال ملكة الحس النقدي للمادة المستهلكة، ولهذا نظل نردد المتنبي وكأنه هو النموذج المعرفي والذوقي (والفلسفي أيضاً، من حيث يشيع كثيراً بوصف شعره بالفلسفة)، ولكنه نموذج ينتمي إلى ثقافة كانت تمثل ذائقة ذلك العصر وعقليته، وليس لنا أن نزعم أنه يمثل عصرنا ولا أنه يقدم لأجيالنا أي نموذجية ثقافية ومعرفية، ولن يخلصنا من هذه الدوامة المغلقة إلا نقد خطاب المتنبي، ولعلي فعلت ما بيدي في كتابي (النقد الثقافي) عن أبي الطيب وعن أبي تمام، ومن جرى خلفهما مثل نزار قباني وأدونيس، وحدث من المعاصرَينِ تكرار نسقي لسالفَيهما، وكأن قروناً مرت لم تغير شيئاً، وهذا ما يحدث لأي ثقافة تغفل عن نقد خطابها (محفوظاتها).