أكتب هذه الكلمات في موسم «برد العجوز»، موسم لا يحبه الناس عادة؛ لأنه يجيء مثل خديعة بعد رحيل الشتاء، وإقبال شمس ما يشبه الربيع. شتاء يباغت الناس بمجيئه بارداً جافاً وقت يتخففون من ثيابهم الشتوية، تنطلي عليهم غواية ربيع وهمي. أما أنا، في الضفة الأخرى فطفل صموت ما نزع الشتوي من ثيابه بعد، يتصبب عرقاً، لأنه يدري أن «العجوز» حتماً، مع ريح الشمال تعود. يتوق الطفل في كل عام لزيارة مباغتة لموسم برد مرتد، مشفوع بذاك الاسم السحري، «العجوز». لعلَّه يجيء بعجوز أحلامه، تعانقه وهو في ثيابه الصوفية الثقيلة.
امرأة تعرف أعداد الطابوق وقطع البلاط في حوش بيتها، وأنابيب الماء وأسلاك الكهرباء المتوارية في جدران البيت وممراته، ولكنها تضيع في أول انعطافات الشارع. حدث ذات يوم أن فقدت زوجة أحد أبنائها خاتم زواجها في مصب مياه الحنفية في البيت الكبير. ركضت الجدة إلى الحوش ركضاً لا يناسب سنها تقول: «سوف أسبق الخاتم». صاحت بحفيدها الطفل: الحقني بالجزة (شبكة صيد الفراش). تبعها الطفل لا يفهم ما تنوي فعله. وفي الحوش المليء بفتحات مصارف المياه استدلت واثقة على إحداها: (هذه). تلهث تطلب من حفيدها الشبكة، وهي ترفع غطاء البالوعة الحديدي الثقيل. أنزلت شبكتها ضيقة الفتحات، وبعد بضع دقائق اصطادت الخاتم. وحفيدها الذي لا يكبر أبداً لا يفهم حتى هذا اليوم، كيف لمن لا يضيع لها خاتم في أنابيب الصرف الكثيرة تحت الأرض أن تضيع في ما يسمونه الموت، وهل حقاً تموت؟
ماتت العجوز، ودفنت في قبر بلا شاهد رخامي يحمل اسمها، فقد قيل لأحبتها إن شواهد القبور حرام. ماتت وهي التي لا تخاف الموت، إنما تخاف كسوراً يخلفها الموت في نفوسِ أحبتها. ماتت الجدة في التاسع والعشرين من مارس، آخر أيام «برد العجوز». ماتت، وأدركت على الفورِ إن لم أكتبها سوف تموت أكثر.. تلك التي اقتلعت أشجارها برحيلها، تلك التي لا شاهد على قبرها. يتلكأ حفيدها كلما زار المقبرة يتلفت بين القبور: «تراها في أي واحد؟»، وهو بلا شبكة صيد الفراش القديمة، يتذكر رحلة الخاتم تحت أرض حوش البيت العتيق.
ركضت إلى أوراقي أسبق الموت مثلما سبقت جدتي الخاتم. أكتب لها شاهد قبر، وأحيي أشجارها المباركة القديمة في جديد أوراقي. ناديت عجائز كتبتها في نصوصي؛ السيدة جاكلين، وماما غنيمة الطاروف، وأمي حصة وبيبي زينب، وأمي بصيرة، وأم دحام، وأم حدب وأم صنقور.. امرأة واحدة لا تكفي لحمل خصال ربة السحر.. فجاءت عجائزي الحزينات، تحمل كل واحدة منهن ميزة أو نقيصة. صارت العجوز دافع كتابة، وجسر عبور إلى صفحة جديدة. وصارت عجوزي، المرأة مكتملة التجربة، هي المأزق والخلاص، أتعثر بكتابة النص إذا ما ماتت في منتصفه ويرتبك دافعي لمواصلة الكتابة. وفي نصوص أخرى، إذا ما شعرت بجفاف الحكاية وتعثرها بالمضي بالحدث إلى النهاية، كنت أزرع عجوزاً جديدة تستنهض الشخوص لأداء أدوارها إتماماً للحدث، توصلهم إلى النهاية سالمين.
التاسع والعشرون من مارس، آخر أيام «برد العجوز» قبل انسحابه على وعد مؤجل، قد يلتقي فيه الطفل عجوزه الأثيرة في عام مقبل، وهو أمام مدفأة عتيقة يتصبب عرقاً تحت ثيابه الثقيلة، ولو تخلفت عجوزه الأثيرة عن المجيء.. سوف يكتب مزيداً من عجائزه الحزينات إلى وعد مؤجل في موسم «برد العجوز» المقبل.

(*) بالإذن من غابرييل غارسيا ماركيز