إذا رغبت في التعرف إلى ثقافة رائعة، ومناخٍ مداري مُدهش، وشواطئ ساحرة وشعب مُهذّب، شد رحالك إلى تايلاند، وجوهرة شرق آسيا، فلديها ما تقدمه للجميع، الجزر الاستوائية، المدن القديمة، قبائل التلال، المعابد البوذية، الأفيال اللطيفة، وحتى مراكز التسوق الحديثة الفاخرة، ونمط الحياة العصرية.

في الأغلب يُطلق على تايلاند اسم (أرض الابتسامات)، ليس فقط لأن الزوار يحبون جمالها الطبيعي وثرواتها التاريخية، بل أيضاً بسبب شعبها الصديق وثقافته المذهلة، حيث يمتلك التايلانديون، الذين يبلغ عددهم قرابة الـ70 مليون نسمة، لغتهم ومأكولاتهم الخاصة ومعتقداتهم المتباينة، وينعكس ذلك على الأدب، الدراما، الهندسة المعمارية، الموسيقى، الرقصات الشعبية، الرسم والنحت والعديد من الحرف. أما تماثيل بوذا الضخمة المنتشرة في قلب الريف والمدن، ومنظر الرهبان بزيّهم البرتقالي، فتعكس جَليّاً جوهر هذا المجتمع الوقور. وينحدر معظم سكان تايلاند من نسل المتحدثين بـ«لغات التاي»، الذين سيطروا على المنطقة منذ أواخر القرن الـ13.

لطف وتهذيب
يفخر التايلانديون بكرمهم وروحهم المتحدة، إذ تقوم ثقافتهم البوذية ببساطتها ونقائها على الاهتمام أكثر بما هو أفضل للمجموعة بدلاً من ما يُناسبهم شخصياً. ولعل هذا هو السبب في أن (لا) تُخفَّف دائماً بـ(نعم). إذ يُعبّرون عن عدم مقدرتهم على تلبية طلبك بعبارَتي (لا) و(نعم) ضمن عبارات صغيرة، وانحناءات لطيفة تعكس تهذيبهم وحُسن معاملتهم، حيث تعتمد تحيّتهم على ضم الكفّين إلى بعضهما، في شكل زهرة «اللوتس» المقدسة لديهم، مع كلمة «سواديكا» وتعني «مرحباً».

وردة الشمال
بدعوة من (هيئة السياحة التايلاندية) للتعرف إلى أسرار شعب التاي ومَلاذات الرفاهية التي يعجّ بها البلد، وصلنا إلى مطار شيانغ ماي، في رحلة استغرقت نحو ثماني ساعات ونصف الساعة، من مطار دبي إلى بانكوك، ومن ثم ولاية شيانغ ماي الملقّبة بوردة الشمال، وتقع في الجزء الشمالي الغربي من مملكة تايلاند، وتبعد قرابة الـ700 كيلومتر شمال بانكوك العاصمة، ومن أعلى نافذة الطائرة أطلت حقول  الأرز المتوهّجة مع أشعة الشمس في السهول، لترسم في ذهني لوحة مذهلة للمنطقة، كان الوقت صباحاً ولا تزال المدينة النائمة في أحضان غابات ساحرة كثيفة، تتثاءب بعد ليلة باردة متأثرة بمزاج طقس ديسمبر الاستوائي، ويتمطّى أفقها من بين جبال شاهقة تُحفز ذاكرة الأساطير والغموض.

حفاوة ودفء
أقلّتنا حافلة مستضيفينا أنا وثلّة من الإعلاميين، رُفقاء الرحلة، إلى منتجع «أنانتارا شيانغ» ماي، المطل على «جبل سوثيب» ويجمع معماره بين الطُّرُز المعاصرة والتايلاندية المحلية، وفي ردهة الاستقبال ذات التصاميم الآسيوية البسيطة تم الترحيب بنا بعصير محلي مصنوع من الورد الطازج، وطقوس حفاوة تبعث على الدفء والاطمئنان، مما يجعل المنتجع مَلاذاً هادئاً ومُريحاً لضيوفه.

تدليك واسترخاء
لم يكن هناك ما هو أفضل، بعد أن رتّبنا إقاماتنا في الفندق، من تلبية دعوة لمساج تايلاندي يُزيل عنّا رَهَق رحلة طويلة بين ثلاثة مطارات، وهو أمر لا يمكن تفويته في بلد فاقت شهرته في هذا المجال أي شيء آخر، إذ تنتشر على طول البلاد محال صغيرة يمارس أصحابها مساجاً للقدمين ولكامل الجسم بسعر زهيد. فأساليب العلاج الطبيعي وشحذ الطاقة بالأعشاب وفنون تهدئة الأعصاب تقليد يومي توارثه شعب التاي منذ سنوات عديده تفوق أكثر من 2500 سنة. من ناحية أخرى، ميّزت تايلاند نفسها بين الدول بالسياحة العلاجية، إذ يُقبل عليها سنوياً من جميع أنحاء العالم ملايين الباحثين عن شفاء لآلامهم.

أسواق ليلية
بحلول المساء، وبعد جلسة المساج التي أجرتها مُدلّكة خمسينية لطيفة باستخدام يديها ومرفقيها وركبتيها، أعادت فيها لجسدي الاسترخاء وشحذته بالطاقة الكامنة، خرجت مع إحدى رفيقاتي لاكتشاف حياة شيانغ ماي الليليّة المفعمة بالحيوية، والتي تصنعها الأسواق التي تبدأ بعد الساعة 11 مساء، إذ تصطف «أكشاك» صغيرة على أطراف الشارع، تبيع الوجبات المحلية المكونة من «النودلز بالكاري» والسمك الطازج بجوز الهند، إضافة إلى مأكولات أخرى من لحم النّعام والغزال والتماسيح، ولا تخلو السوق من الأطعمة الغريبة التي تُدهشك، مثل وجبات «العقارب» و«الصراصير»، فهناك كل شيء يُؤكَل، سواء أكان زاحفاً أم طائراً أم راجلاً، كذلك تعرض السوق الليلية في جو احتفالي وشعبي الفاكهة المجففة والطازجة، والكثير من السلع الأخرى المختلفة التي تخضع للمساومة في السعر. وتجد في كل بلدة تايلاندية سوقاً ليلية، أشهرها هذا البازار الليلي في شيانغ ماي، الذي يمنحك متعة التسوق الاستثنائية في الأسواق التقليدية، وتشتهر تايلاند كذلك بالأسواق العائمة.

المدينة الجديدة
في اليوم الثاني، عبر جولة في الشوارع في طريقنا إلى مَزارات سياحية عديدة، تجلّت لنا «شيانغ ماي»، مملكة المليون حقل أرز، ضمن ما يُقال عنها عن عراقة وتاريخ ثري حدثتنا به دليلتنا السياحية، إذ كانت المدينة عاصمة مملكة لانا بعد إنشائها عام 1296. لكن في 1599 فقدت المملكة استقلالها وأصبحت جزءاً من مملكة أيوتايا. وكما تورد الأسطورة، قرّر الملك منغراي، مؤسس شيانغ ماي وتعني المدينة الجديدة، إنشاءها في هذا المكان، بعد أن شاهد كإشارة روحية أسرة من الفئران والغزلان البيضاء، ومنذ ذلك الحين والمدينة تتشبّث بتراثها الممتد إلى مئات السنين، من دون أن تفلت يد الحداثة والعمران التي بسطت لها المواكبة والتطور، فهناك تتصافح البنايات الراقية مع الأكواخ والمعابد البسيطة، والمتاجر الحديثة مع أسواقها الغارقة في الشعبية، فباتت هي «المدينة المُبدعة» في نظر «اليونسكو».

شيانغ راي
في اليوم الرابع أقلّتنا الحافلة صباحاً إلى «شيانغ راي»، وسط جبال هائلة ومناظر طبيعية تحبس الأنفاس، من الشلالات والأنهار سريعة الجرَيان، تستغرق الرحلة نحو أربع ساعات، وفي الطريق، حيث محطات صغيرة للاستراحة، وضعنا أقدامنا في ماء الينابيع الساخنة المنتشرة، واستمتعنا بشعور رائع، ثم وصلنا إلى وات رونغ خون (المعبد الأبيض)، وهو متحف مُعاصر وغير تقليدي، ويتميز بتصميم معماري فريد من نوعه. ولا يمكن كذلك تفويت زيارة المقر الصيفي لوالدة ملك تايلاند الراحلة، وهو عبارة عن فيلا مبنيّة من الخشب، مُلحَقة بها حدائق غنّاء شاسعة، وتحتل موقعاً متميزاً على قمة الجبل.

في آخر النهار عدنا لنقضي ليلتنا في منتجع (إيه - ستار بولير فالي)، والذي تتوزع غرفه وفيلاته ومنازله الخشبية الفاتنة في أحضان الطبيعة المدارية، بنمط فريد من الخدمات والراحة الحديثة، وتضفي الإضاءة الخافتة، مع رائحة النباتات الطبيعية ذات الروائح العطرة، مزيداً من الاسترخاء على نزلاء المكان، مما يجعله خياراً ساحراً لمحبّي الرومانسية.

العاصمة المشاغبة
في يومنا الأخير عدنا لـ(فندق137 بيليرز سويتس) لنقضي ليلة من ليالي العمر، حيث الفخامة العالية والروح العصرية، ويقع في قلب بانكوك العاصمة «المشاغبة»، حيث ينتشر الـ«توك توك» ذو العجلات الثلاث، ملوّناً أماسيها بموسيقى عشوائية صاخبة، وأضواء برّاقة يوقظ بها شوارع المدينة، فيجعلها في حالة اتّقاد دائم، فلا تخبو ولا تنام في إيقاع متناسق، مع حركة مراكز التسوق الحديثة مع العلامات التجارية العالمية، والبنايات الشاهقة والمباني السكنية، والأسواق المحلية الصغيرة، ورحلات العشاء الرومانسية على نهر تشاو فرايا. وفي الصباح ودّعنا أرض التاي بذاكرة مُترَعة بجمال طبيعتها وعراقة أهلها وابتساماتهم التي لا يطويها النسيان.

معابد
تشتهر مدينة «شيانغ ماي» بمئات المعابد المثيرة للإعجاب والمتألقة بلونها الذهبي وسُطوحها المزخرفة، مما يمنحها جواً دينياً خاصاً. ويُطلق على المعبد اسم «وات»، بحيث لا تترك للزائر فرصة تخطي التعرف إليها، خاصة متحف «وات دوي سوثيب»، ومعبد «وات فرا سينغ»، أكثر المعابد شهرةً في «شيانغ ماي»، بفضل «تمثال بوذا» الأكثر تبجيلاً، وتم نقله إليه في عام 1360.


قبائل وأفيال
من الأماكن الجاذبة للمشاهدة في «شيانغ ماي»، معسكرات الفيَلة التي تحظى بقدسية وحُب واحترام في تايلاند، وحديقة زهور تُعد الأكبر في العالم، تزهو فيها «زهرة الأوركيدا» رمزاً للمملكة، كما أن هناك فرصة لاكتشاف طريقة الحياة في الحقَب الماضية، من خلال زيارة مجتمع قبائل التلال المحيطة، والتي هاجرت إلى تايلاند منذ أكثر من 100 عام، والتعرف إلى طريقة حياتهم التقليدية.