مرّت سنوات على آخر عهدي بمتابعة ابنتي مريم في المدرسة، فهي اليوم على أعتاب التخرّج في «جامعة السوربون» في أبوظبي، ولكن متابعتي لخبر فوز مدرّس الرياضيات والعلوم الكيني بيتر تابيشي عاد بي لفترة دراسة ابنتي، وحتى لمقاعد دراستي أنا، والعلاقة التي تربط الطالب والمعلم في أيامنا كانت علاقة لا تُشبهها علاقة أخرى، وكانت مهنة المعلّم تُشبه في قيمتها الاجتماعية مرتبة وزير أو أكثر في التوقير والتقدير لدوره.
ما دفعني إلى الكتابة عن المعلّم ليس خبر جائزة فاركي فقط، وروعة تقدير المعلم الذي ترعاه قيادتنا الحكيمة، ولكن المعلّم الذي نبت إبداعه في كينيا وسط التحديات كافة، ومحدودية الموارد التي يواجهها التعليم في أفريقيا، وهو ما عاد بي لحديث جانب من أصدقائي في المجالس المختلفة، عن الصعوبات التي يواجهها أبناؤهم في المدارس، وتحسّرهم على معلمي أيام (لوّل). وهو ما طرح لديّ سؤالاً ملحاً:  نحن في أكثر البيئات تقدماً وتطوراً تقنياً، ولكن لا يزال بعض الأهل يرون تحصيل أبنائهم التعليمي دون المستوى، فما الذي يحصل اليوم؟
هل هي المدارس أم المعلّم أم متابعة الأهل لأبنائهم وبناء الجسور مع المدارس والمعلمين؟ وحتى أتوصّل إلى إجابة يكون طرفَ خيط الإجابة أوله عندي وآخره يمتد عندكم بعد نهاية سطور هذا المقال، عُدت بذاكرتي لعلاقتي بواحدة من معلماتي اللاتي أعتز بهن حتى اليوم، وهي الأستاذة مريم السيد مدرسة الرياضيات، ومشهد حصة الرياضيات في ذلك الوقت. لم تكن المدارس تحتضن هذا الكم الهائل من إمكانات اليوم والتسهيلات، ولكن كان في منظومة التعليم ما هو أهم وأجمل، وهو ما جعل علاقتي بمعلمتي تمتد حتى اليوم بعد هذه السنوات من إنهاء المدرسة.
هنا أقصد أن الأهل كانوا يؤمنون برسالة المعلّمة ودورها أكثر، والمعلمة أو المعلّم يرى أنه يقوم بالمهمة الأكثر أهمية في الكون، والمؤسسات التعليمية كان أهم ما توفره للمعلم هو الاحترام والتقدير والاحتفال به من دون مناسبة، والحلقة الأهم هي حرص المدارس على تقييم حصول الطالب على القيمة المضافة المتوقعة من كل مرحلة عمرية، أكتب وأنا أعلم أن هذا الموضوع، على وجه التحديد، ليس من القضايا التي يسهل اتفاق الآراء عليها، ولكن ما أوصي الأهل والمدرسة بإعادة إحيائه هو اللمسة الإنسانية للعملية التعليمية بعيداً عن انتظار الاجتماعات السنوية أو الدورية لأولياء الأمور.
دور الأسرة هنا محوري واستراتيجي في إعادة ترميم هذه العلاقة، فمن المهم جداً أن نربي أبناءنا على احترام المعلم بالقدر نفسه الذي تعكسه أبيات شوقي (قم للمعلم وفّه التبجيلا.. كاد المعلم أن يكون رسولاً)، فأبناء اليوم هم معلمو الغد. وأما على مستوى المعلمين فلا بُد أن تكون مهنته كمعلّم مبعثاً على الفخر والاعتزاز، وأن يحرص في كل الأوقات على أن يكون القدوة والمرجع لطلبته في مختلف احتياجاتهم في البيئة الصفية، ويجب ألا يتنازل أيّ من الأطراف السابقة وخاصة الأسرة والمعلّم عن أفضل المعايير، وألا يستسلموا بحجة أننا في عصر السرعة وأن التقنية احتلت جانباً من دور المعلم وأن الجيل الجديد ليس مهتماً بالبيئة الصفية وغيرها من الأعذار.
العصر الذي نعيشه اليوم فرصة ذهبية، وفوز الأستاذ الكيني بيتر تابيشي دليل على أن عذر الظروف وأثر التقنية وغيرهما ليست سوى أعذار واهية يجب ألا نقبل بها. أكتب سطوري لأنني أعلم أن الإمارات تحتضن أروع قصص المعلمين والطلبة، ولكن نحتاج أن نجعل هذه القصص تشبه قصة تابيشي، وأن يصبح اليوم الدراسي بداية حكاية (قم للأفضل في العالم ووفه التبجيلا).