يقول الفيلسوف إميل سيوران: «أولئك الأبناء الذين لا أرغب في مجيئهم؛ ليتهم يُدركون حجم السعادة التي يَدينون لي بها». طرأت ببالي هذه المقولة وأنا أتابع مشهداً صادماً من فيلم «كفرناحوم»، إذْ يشتكي الطفل (زين) على والديه في المحكمة، وحين يسأله القاضي عن السبب، يُجيب: (لأنهم خلّفوني!). قد يستنكر البعض قولاً كهذا، وقد يستخفّ به البعض الآخر، خصوصاً حين يصدر من طفلٍ لم يتجاوز الـ12 عاماً، وكان قراراً ذكياً من القائمين على الفيلم حين وضعوا هذا المشهد في البداية، فقد أثار فضولنا لاكتشاف الظروف التي دفعت (زين) ليقول عبارته الصاعقة. وبعد انتهائي من مشاهدة الفيلم، فهمتُ شعور جماهير مهرجان (كان) الذين ظلّوا واقفين لـ15 دقيقة وهم يصفّقون للمخرجة اللبنانية (نادين لبكي)، وعلى الرغم من أنني كنت وحدي في القاعة، إلا أنّ دهشتي كانت تكفي لملء مدرجٍ يضجّ بالتصفيق!

أحياء فقيرة
تدور أحداث فيلم «كفرناحوم» في أحياء لبنان الفقيرة، حيث يعيش الطفل زين مع عائلته في أوضاعٍ مأساوية في بيتٍ أشبه بعلبة سردين، ويضطر إلى العمل مع إخوته الصغار في بيع العصائر وتوصيل البقالة وأشياء أخرى ليكسبوا قوت يومهم. تتصاعد الأحداث بعد أن يحاول زين الهروب مع أخته سحر (11 عاماً) لينقذها من براثن الزواج الغاصب، لكنّ خطته تفشل، فيهيمُ على وجهه مشرداً بين الشوارع والأسواق، إلى أن تجمعه الأقدار بالعاملة الإثيوبية (راحيل) التي تعاني هي الأخرى هموماً تتعلق بوثيقة الإقامة ورعاية طفلها الذي أنجبته من علاقةٍ غير شرعية، وبين معاناة زين وراحيل تذكّرت العبارة الشهيرة التي افتتح بها تولستوي روايته آنا كارنينا: «كل العائلات السعيدة تتشابه، لكن لكل عائلةٍ تعيسة طريقتها الخاصة في التعاسة».

عمل حقيقي
فيلم «كفرناحوم» لم يخضع لعملياتٍ تجميلية، فهو حقيقي لدرجةٍ قد تكون مزعجةً ومرعبة، فالواقع بفطرته سيسبّب لك صدمةً إنسانية، فهناك أزمة الفقر وانعدام الهوية والاغتراب واللجوء وزواج القاصرات، وتتعدّد الأزمات والبؤس واحد. كما أن الفيلم يزخر بالألفاظ البذيئة التي يتفوه بها حتى الأطفال، وهنا أستحضر شطراً للشاعر السعودي عبد اللطيف يوسف: «ومقزّزٌ.. لكن بكلّ براءة». أحد أجمل المشاهد في الفيلم كان حين ركب الطفل (زين) الحافلة وجلس بجواره رجلٌ عجوز يرتدي زياً شبيهاً بزي سبايدرمان، لكن بشعار صرصور بدلاً من العنكبوت، ورأيت في ذلك رمزيةً تشير إلى انعدام قيمة الفرد في المجتمع وتحقيره، وسط الفقر والتكاثر اللامسؤول، إذْ يقول والد زين في مشهدٍ آخر: «نحن حشرات.. عار ع المجتمع».

إتقان
قبل أن أشاهد «كفرناحوم»؛ كنت متعصباً بكل جوارحي لفيلم Roma من بين قائمة الأفلام المرشحة لأوسكار أفضل فيلم أجنبي، أما الآن فأرى أنه من الظلم أن يجتمع هذان الفيلمان في فئةٍ واحدة، فـ«كفرناحوم» بلغ من الإتقان ما يمكّنه من مناطحة أفلامٍ أوسكارية تربعت على عرش هوليوود، ومن بين كل الأعمال العربية التي رُشّحت للأوسكار فإنه أكثرهم ملامسةً للقلب وإثارةً للدهشة، ويبدو أن السينما اللبنانية بدأت تحفظ طريقها للعالمية بعد أن دخلت سباق الأوسكار في العام الفائت بفيلم «قضية رقم 23» و«كفرناحوم» هذا العام.
قالت لي إحداهنّ بعد مشاهدتها فيلم «كفرناحوم»: «شعرت بأن همومي تافهة جداً، وشعرت بأني أريد أن أستأصل رحمي». وأرى أن هذه العبارة أبلغ من مقالي بأكمله، وأبلغ من أي مديحٍ أو نقدٍ سأكتبه، فما دام الفيلم قد وصل إلى هذا العمق، وأحدثَ هزةً في بعض القناعات الراسخة أو المشاعر الراكدة؛ فكفى بذلك نجاحاً. ومن هذا المنبر أدعو المخرجة نادين لبكي لإنجاب الكثير من الأفلام، فليس هناك أجمل من ملصقٍ يحمل اسمها.