منذ سنوات عدة، تزامناً مع المهرجان الدولي للكتب «الصالحة للأكل»، يقام في فرنسا في جامعة «إيلينويز» في شامبين، مهرجان، لا يُدعَى فيه الزوّار لقراءة الكتب بل لالتهامها. المشاركون يأتون بلوازم «طبقهم الأدبيّ»، وينهمكون في إعداد كتب للأكل، يتمّ عرضها وتوثيقها، ثم التهامها في المكان نفسه!
لا أعرف عملاً أكثر جرأة من إقدام المرء على نشر كتاب، لذا أجد الفكرة رائعة. ففي التهام كتابك ضمان لحماية كلماتك من السرقة، وتلصص الآخرين عليك، وقطع لرزق النقاد الذين يعيشون على تشريح وتجريح أعمالك. ثمّ، لعلّها الفرصة المثالية أيضاً لنُخفِّف من الجرائم في حق الأشجار، التي يغتالها البعض لطباعة كتُبٍ لن يقرأها أحد. فالأفضل للكاتب أحياناً أن يأكل مُؤلَّفاته، على أن ينتهي جهده وليمة للفئران في المخازن.
أغبطهم، فحتى الآن، الكِتاب هو من يلتهم من حياة الكاتب أشهراً بل سنوات من عمره، يهدرها في المراجعة والتنقيح، بينما لا يستغرق الأمر هنا أكثر مما يلزم من وقت لإعداد طبق أو قالب حلوى. مبتكِرة هذا الحدث أعلنت بأنه «اليوم المثالي لالتهام كلماتك واللعب بها أيضاً». أي بعد زمن «الرسم بالكلمات» جاء زمن «الأكل بالكلمات»، فقد لا نحتاج في الأزمنة المقبلة إلى نظّاراتنا، بل إلى شوكة وسكين لمطالعة الكتب. أمّا تاريخ المهرجان، فهو أول نيسان، لا لأنّ القراءة «كذبة»، كما يحدث للكتابة أن تكون، بل لأنه تاريخ ولادة فرانسيس بيكون أحد الذوَّاقة الفرنسيين الشهيرين، الذي جمع بين حبّ المطبخ الراقي والشغف بالكتب، ويرى أنّ «بعض الكتب يمكن تذوّقها، وأخرى بالإمكان ابتلاعها، والقليل منها فقط التي تمضغ وتهضم».
فهل كان الشاعر اللبناني عباس بيضون قد سمع بشعار «لا تقرأ الكتاب.. التَهمه»، حين كتب في إحدى قصائده «سآكل هذه الصفحات. لن أتَوقَّـف حتى أنهيها. فما من طريقة ثانية لتصريفها. سأرسلها هكذا مباشرة إلى ضميري. سأجبرها أن تدخل دمي».
لكن، أن تلتهم كتاباً أمر لا يخلو من المجازفة، خاصة إن كنت من هواة الكتب القديمة. فقد يقودك فضولك وسوء الحظ إلى الوقوع على أحد الكتب المسمومة، كتلك المجلّدات الثلاثة التي تعود للقرنين السادس والـ17، والتي عثر عليها مؤخراً في إحدى المكتبات العتيقة بالدنمارك، وتبدو في غرابتها وكأنها خارجة من قصص الرعب الإنجليزية، فقد أذهلت الباحثين الذين تعذّر عليهم قراءتها نتيجة وجود طبقة من الطلاء الخضراء، وحين ذهبوا بها إلى المختبر بهدف تعريضها لأشعة تمحو هذا الطلاء، فوجئوا بأنها تمّ طلاؤها بطبقة سميكة من الزرنيخ بهدف تسميمها، وقتل من يجازف بقراءتها. ممّا جعلهم يحتفظون بها في صندوق كرتوني كتب عليه «خطر الموت»!
حين سئل الكاتب الأرجنتيني الكفيف بورخيس عن حياته، أجاب: «حدثت لي أشياء قليلة ولكنّني قرأت كثيراً، أقصد لأنّني قرأت كثيراً حدثت لي أشياء كثيرة».
أشياء كثيرة يمكن أن تحدث لك بسبب القراءة. فقد يُرديك كتاب قتيلاً، وقد يحوّلك إلى عاشق، أو إلى قاتل أو سارق، كما جان جنيه، أحد كبار كتاب فرنسا، الذي دخل السجن بسبب سرقته نسخة نادرة لديوان «أزهار الشر» لبودلير، وقد يجعل منك راقصاً على حلبة الحياة لأنك بدأتها بقراءة «زوربا»؛
لذا عليك أن تحتاط من تلك المنطقة الملتبسة بين الورق والحياة التي تُدعى «كتاب»!