تعايش الإنسان مع النسيان بكل صيغه، وتظل خاصية النسيان في سباق متصل مع التذكر، وبعض التذكر سيئ لأنه يديم الأوجاع حتى ليظل المرء في نكد متصل يثقل حياته ويحوله إلى حال من التوتر الدائم ضد من أوجع قلبه، والثقافة تصف هذه الحالة بالحقد وصاحبها حقود، وهي حال مرضية لا يشفيها إلا النسيان، وإلا تحولت إلى ثارات متصلة تزيد من توتير الحياة والعلاقات. وفي مرحلتنا هذه زادت العلاقة الطردية بين التذكر والنسيان، حيث لعبت الآلة الحديثة دور التذكر والتذكير بدءاً من تنبيهات جوالك لمواعيدك، وحفظه جدول الحساب نيابة عنك، وامتداداً لتزويدك بالأخبار، لحظة بلحظة.
ولكن، هذه الآلية نفسها تقوم بدور آخر غير التذكير، وهو المسح المتصل لكل ما كنت منشغلاً به، أي أنها تنوب عن تذكراتك، وتقوم بوظيفة النسيان نيابة عنك في آن واحد، وعندك تجربة الفضائيات وتجربة «تويتر»، حيث تلحظ أن عواصف من الأحداث الصاخبة تعمر الشاشات كلها، الصغيرة والكبيرة، وتحتل فضاء الاستقبال وتستحوذ على العين والذهن، حتى لتظن أن قيامة الزمن قد قامت، وهذه قمة حالات التذكر والحضور الطاغي، ثم ما تلبث هذه أن تزول، وكأنها لم تكن بعد أن حشرت الزمن أمامك في كبسولة متفجرة تحتل كل كيانك، ويأتي غيرها ليزيحها ويلعب دوراً مماثلاً في حشر اللحظة وتكثيفها لتنقلك من كون إلى كون وتظل أنت تتذكر قسراً ثم تنسى تلقائياً، كل هذا وأنت تجري خلف الشاشة بعينك وذهنك تستقبل وتختزن، ثم تفرغ وتنسى، ومن تعامل مع «تويتر» سيدرك كم من معركة ملأت حسابات «تويتر» واستولت على الأذهان والأبصار، لدرجة تظن معها أن المعركة ستقرر مصير الواقع الاجتماعي، ولكنها تذوب بعد أيام من دون أن تترك أي أثر، حتى لينسى المغردون أنهم قد تفاعلوا وانفعلوا معها، لأن معمعة أخرى جاءت وأخذت الجو، فتمسح هذه تلك في دورات متعاقبة ما بين التذكر والنسيان، حتى صار إيقاع الحياة نفسها متماثلاً مع إيقاع الصورة تركيزاً ومحواً، في ثنائية يومية متعاقبة من دون توقف أو تأمل.