قالت العربُ قديماً: لكل امرئ من اسمِه نصيب. ولعلَّ من سخاء بعض الأسماء أن يكون للآخر نصيبٌ من فيض عطائها، واسم صاحب الشأن هُنا واحد من تلك الأسماء التي منحت الكثير. هو لطيفُ الكلمة التي استقرَّت في وجدان أجيالٍ متتالية، كلمة أهلته ليصيرَ صانع ذكرياتٍ بامتياز. هو البنَّاء الذي شيَّد صرح الأغنيات الخالدة في الذاكرة الكويتية والخليجية منذ ما يناهزُ عُقوداً خمسة شكَّلت يوبيلاً ذهبيّاً توَّج مسيرةً إبداعيةً حطَّ صاحبُها على غصونِ الأغنية باختلاف أنماطها، ليتركَ أثراً في كُلِّ لون غنائي خاضه كتابةً.
لم يكُن الدَّربُ حريرياً تحت قدمَي شاعرنا الأثير في زمنِ البدايات في أواخر الستينات من القرن الـ20، وكانت الساحة الغنائية في الكويت والخليج في أوجِها، تقدِّمُ أسماءً صارت اليومَ أيقونات في فضاء الذاكرة، ولكن نبوغه المبكر منحه فرصة وطءِ عالمِ الأغنيات مشفوعاً بعذبِ الكلمات، وصار اليوم واحداً من مؤسِّسي مرحلةٍ مهمةٍ من مراحل تطور الأغنية في الخليج. هو الذي كتبَ قديمَ الكلمات بجديد الثياب، واكبَ فيها الزَّمن ولم يتخلَّ عن أصالتها وفرادتها المحلية على اختلاف بيئتها، بين ثقافةٍ تستمدُّ ثراءَ مُفرداتها من طبيعةٍ تُراوح بين سواحِل الخليج وصحرائه، بين نهمةٍ شجيَّةٍ تُحاكي أزرق الموج وجرَّة ربابةٍ تخشعُ لأنينها الصَّحراء. يجيءُ من خليجِ «محمَل وبحَّار» وبراري «حُرٍّ وصقَّار». هو صندوقنا المبيَّت بنقوشِه المذهَّبة، ذخرُ السِّنين الماضيات الذي كُلَّما جرَّنا إلى الأمسِ حنينٌ فتحناه، نُبصر فيه صورَ أجدادِنا بجلودٍ حمَّصتها الشَّمس، تتحسَّسُ فيه أصابعُنا نتوءات الزَّري في ثيابِ جدَّاتنا، نشتمُّ فيه ضوعَ العودِ والبخور، وماء الوردِ في أثواب صلاتهنَّ.
يتفرَّد شاعرنا بإيغاله في السير عبر الزمن إلى الوراء، ضد السائد، لا يرهقه البحثُ في بيوت الطين وألسِنة ساكنيها، وسِكَك الماضي حيثُ وُلِد في الحيّ القِبلي عام 1948، يطوفُ الأسواق القديمة، يجمعُ الكلمات في «شِليلِه»، كلماتٍ أسقطها التاريخ في غفلةٍ منا، ينتشلها من النسيان ليكتب لها شهادة ميلادٍ جديدة، تتجلَّى في أُغنيةٍ تمضي نحو الخلود. يتوارى شاعرنا عن الأنظار حيناً، يغيب على دأبه ولا نخشى غيابه لأنه حتماً سيعود، ونتطلَّع إلى لقائه مع أوبة السُّفن الشِّراعيةِ على السِّيف في موسِم قُفَّال، نُبصره على ظهر سنبوكٍ عتيقٍ يجيءُ من رحلةِ غوصٍ موغِلة في القِدم، غانماً دُرَر الكلمات المنسية، وإذا ما عادت السُّفن من دونه يوماً؛ أقبلنا على تخوم الصَّحراء نتحرَّى إيابه يحدو قطيعَ إبلٍ أصيلة، يحملُ في مِزودتِه مِن سماءِ الصَّحراءِ نجوماً قَطَفها مثلَ ثمار نخلةٍ فتيَّة. يرصُّ قديمَ الكلماتِ في جديد أُغنياتنا، مُفسِحاً لها مكاناً يليقُ بها في قاموسِنا الناقص.
عبد اللطيف البنَّاي، ماذا عسانا نقول في يوبيلك الذهبي وخمسينية عطائك، مُذ أول أغنية عاطفية لحَّنها وغناها لك الرَّاحل عوض دوخي عام 1969، وحتى اليوم؟
عبد اللطيف البنَّاي، غِب كما تشاء في التِّرحالِ والإبحار، ولن نقول كما قُلتَ أنتَ «وداعية»، إنما نحنُ هنا، نتحرَّى عودتك سالماً من الأسفار حامِلاً في مِزودتك قديمنا الجديد لتصبه في أغنية ننتظرها، نُغنِّيكَ بعذب كلماتك: «هلا في غايبٍ ما غاب.. عليه مغمِّض الأهداب.. فديتك لا تطق الباب.. تفضَّل قلبي مشرَّع».