يقول لامارتين: «شخص واحد ينقصك وإذا بالعالم لا أحد فيه».
لا تكمن المشكلة في صعوبة عثور المرء على نصفه الآخر بين سبعة مليارات إنسان يقاسمونه هذا الكوكب، بل المعضلة الكبرى أنه يعيش معهم على هذه الأرض، وهم غير قادرين على تعويضه عن شخص واحد يعنيه، حين يغيب.
فجأة، عليه أن يواجه دموع الأمكنة، وأسئلتها الموجعة، أن يتعايش مع كل ما كان عامراً، وغدا قاحلاً، لأنّ شخصاً واحداً فريداً غادره.
السؤال الأكبر: كيف استطاع الحب إذاً أن يعثر علينا، وسط هذا الطوفان البشريّ؟ بأيّ معجزة وجدنا في تلك اللحظة وذلك المكان؟
هل يعترض الحب طريقنا أم نحن من نطارده؟ أهو الذي يتعرّف إلينا بين الحشود، أم نحن الذين نومئ إليه، ونتحرّش به، ليستدلّ علينا ويُلقي القبض على قلوبنا؟
عادة نكون يومها من دون مناعة عاطفية، جاهزين للوقوع كتفاحة نيوتن، من دون أن ندري أننا ضحايا قانون الجاذبية، وأن لا جدوى من الصمود. فنحن في مواجهة قدر لا مفرّ منه. «الحبّ مثل الموت وعد لا يُردّ ولا يزول»، حسب محمود درويش، وليس عليك أيها المسكين إلا الارتطام بقدرك العشقي.
ثمّ.. كيف يمكن لشخص واحد، وهو يغادر، أن يلغي بغيابه حضور سبعة مليارات إنسان على وجه الأرض؟ أن يأخذ في انسحابه كل الكائنات وكل البشر؟ أن يحرض علينا كل ما في حوزتنا، فيغدو الهاتف عدونا، والسرير وسادة دموعنا، والساعة عقارب تلدغنا كلما طال انتظارنا؟
ألذا، ندخل الحبّ مرتعبين، خوفنا من الحزن يسبق الحزن نفسه، وتوقعنا الفقدان حالة فقدان نتعايش معها، فنخسر لفرط خوفنا ما كان لنا.
في قمة سعادتهم، يتوجس العشاق فاجعةً ما، يتشظون، ينشطرون، يتناثرون حزناً وبكاءً، على الذي سيكون، وعلى فراق لم يحن وجعه بعد.
لكأنّ لسان حالهم قول ابن زهر الأندلسيّ في موشّحه الشهير:
عَشيَت عيناي من طول البكاء ... وبكى بعضي على بعضي معي
كلّما فكّر في البين بكى ... ويله يبكي لما لم يقعِ!
لا مناطق عاطفية آمنة، ولا محميات لحفظ الحب، مما يُتربص به، الحب وحده هو الذي يحمي نفسه حتى من حماقة العشاق.
لنعترف بأننا نحن بالذات أمة تخاف السعادة، نتطيّر من كل ضحكة أو فرحة، خشية أن ندفع ثمنها دموعاً.
نحب تدليل الحزن، لذا نُهديه نصف أعمارنا، إذ نهدر نصف الحاضر في الالتفات للماضي، ننقب في الحفريات العاطفية عن آثار قصة أخفيناها بعيداً في الأعماق، نعود لها بين الفينة والأخرى لمزيد من الألم. فالألم هواية، أما الأمل فهو، حسب محمود درويش، موهبة.
كيف نكتسب موهبة الأمل إن كنا نستحضر خساراتنا، ونحلم بمفعول رجعي بما كان يوماً، لا بما سيكون؟ لعلّها حالة محض عربية، يتفوّق فيها الحنين على أي مشاريع مستقبلية، لثقتنا بأن ماضينا أجمل من مستقبلنا في كل شيء. حتى أحلامنا تراهن على عودة الماضي، بدل أن تغرينا بما قد يحمله المستقبل. لسنا مستعدّين لاكتشاف خيبات جديدة، استناداً إلى ذلك المثل الشعبي القائل: «اللّي تعرفو خير م اللي ما تعرفوش»!