هل مرّت بكم لحظات بحثتم فيها عن مكان يحتويكم بعيداً عن ضوضاء العالم، تلك البقعة التي تستعيدون فيها توازنكم وتعودون كيوم وُلِدتم؟ هو المكان الوحيد في العالم الذي لا تحتاجون فيه لمقدمات لتكونوا في قمة راحتكم، وهو منبع سعادة لا حدود لها حتى في أصعب اللحظات والمواقف التي تمر علينا في حياتنا، وأنا لا أتحدّث هنا عن جزيرة بعيدة ولا وجهة سياحية لم تسمعوا عنها من قبل، أحدثكم عن وجهة من ثلاثة حروف تلك هي (أمي) وقلبها الذي يفوق كل الأماكن سعة ودفئاً.
من منّا لا تأخذه الحياة بأسلوبها المعاصر السريع من محيطه وينغمس في تفاصيل العمل كأنّه عالقٌ هناك بلا نهاية، بالطبع كثيرون منّا يواجهون هذا بشكل أو بآخر وينسون أن مخرجهم من دوامة الحياة على بُعد زيارة أو اتصال صباحي ومسائي يخبرهم أن الدنيا بخير لمجرد أنهم بخير. قد لا أكون التقيت جميع الأمهات لكن أعلم أن قلوبهن ملاذ لا مثيل له، ولكنني سأحدثكم اليوم عن أمي.
كنت ولا أزال من المحظوظات في هذه الدنيا لأن أمي صديقتي وعصب حياتي في مختلف المراحل التي مررت بها. لا يبدأ يومي من دون سماع دعائها صباحاً ورؤيتها التي تفوق أطيب أنواع الدخون عبقاً. نضجت علاقتي بأمي ولكنّها احتفظت بطقوس حبّ الأم التي لا مجال للتفاوض عليها، فهي تحبني وتخشى عليّ كطفلة، تعتني بأدق التفاصيل وتنصحني وتوجهني ولا تنام قبل أن أعود للبيت، ومكالماتها خلال سفري هي بوليصة تأمين هدوء البال لي.
ما أنا فيه اليوم هو، بعد توفيق الله، بفضل تربيتها الحاسمة التي لم تكن تفرق فيها في المسؤوليات بين ولد وبنت، فالجميع مسؤولون والجميع لا بُد أن يقوموا بأدوارهم في المنزل، حتى بوجود الفئة المساعدة، فبالنسبة إليها وجودهم لا يبرر الكسل أو الاتكالية. وكانت توزّع علينا مهام منزلية في نهاية الأسبوع مثل الطبخ والتنظيف حتى نشعر بقيمة ما نحن فيه وأهمية لمساتنا في بيتنا.
لم تكن تقبل أعذاراً أو تعفينا من الواجب! فالتغيب عن المدرسة لم يكن مقبولاً أبداً، والاستيقاظ منذ الفجر والنشاط كان أسلوب حياتنا، وكانت ولا تزال خبيرة التواصل الاجتماعي قبل أن تظهر وسائل التواصل الاجتماعي وجعلت صلة الأرحام الجسر الذي يربطنا بمحيطنا.
لكل الدنيا يوم أم ولأمي كل يوم في حياتي أدعو الله أن يبارك في أعمار أمهاتنا. مهما تجولت في هذا العالم لن أجد أدفأ من قلبها ولا أشهى من حديثها الممزوج بقهوة تُعدها بيدها بمناسبة أو من دون مناسبة، بين يدي أمي التاريخ وأصالة تراثنا تطوّق به ذراعي فأرتدي أثواباً قمة في الأناقة أجمل ما فيها (التلي) الذي لا تزال تحيكه أمي حتى اليوم. كل عام وأمي وأمهاتكم بألف خير.