القراءة عقل غيرك تضيفه إلى عقلك، جملة تترجم سيرة الجاحظ، هذا الذي نشأ فقيراً معدماً حتى ليعجز عن شراء كتاب، فاحتال لأمره وأخذ يستأجر دكاكين الوراقين بالليل، بحيلة ذكية فالوراق لا يحتاج دكانه في الليل وسيغريه أي مبلغ يقدم له مقابل أن يترك دكانه لمستأجر يدفع مبلغاً زهيداً، ولكن المستأجر الفقير كان يخطط لمطمح جليل وسيصرف ساعات الليل بين الكتب يقرأ ويسجل على ورقاته بعضاً مما يقرأ، وسيظل يعاود هذه العادة ليمر على دكاكين وراقي البصرة إلى أن تشبعت نفسه بعلوم عصره، ولم يبقَ كتاب في سوق البصرة لم تقع عليه عين الجاحظ، وتلتقط ذاكرته محتوى الكتاب، وهنا جاءت مقولة عقل غيرك لتضيف للجاحظ عقول زمنه كلها عبر كتبهم. وتطور وضع الجاحظ حسب القاعدة العربية بأن كل إناء بما فيه ينضح، وصار عقل الجاحظ حاوية لعقول الأزمنة في تنوعها فكراً، وتنوعها أسلوباً، وتنوعها ثقافة، ومن هنا ظهر الجاحظ بوصفه علامة عصره، وضميراً للثقافة تتجلى في كتبه المتنوعة في مادتها وفي فرادة أسلوبها، وبرز بروز المبدع في كتابته، ليجد له موقعاً رفيعاً في صدر المشهد الثقافي، ذلك المشهد الذي كان يحتله الشاعر الشفاهي غالباً، فيأتي الجاحظ ليعزز مقام الكتابة ليوازي مقام الشعر، ثم يبرع في الخطاب الساخر المختلف عن خطاب الهجاء الشعري، فيجعل من السخرية قناعاً أسلوبياً لنقد المؤسسة من دون أن يواجه رد فعل يحاصره، وذلك لأنه اكتسب عقول غيره واحتواها حتى أصبح الأمهر في استخدام الصيغ العقلانية بوجهها الساخر والمتنوع في تلوين النص بألوان خلابة تنقل قارئه ما بين جد وهزل، فيوصل رسالته بين الخطابين في استرسال واستطراد. عرف عن الجاحظ حيث يراوح بين فكرة وفكرة ويرسم طريقاً حلزونياً تسلكه أفكاره، لتصل إلى قرائه بحيل ماهرة تشبه مهارات الشعراء الكبار في الترميز ولعبة المجاز.
برز الجاحظ وهو خالٍ من مسببات البروز التقليدية، فهو ليس بذي حسب ونسب، ولا بصاحب لسان شعري، ولا يستند إلى فئة طبقية، بل خرج من رحم الفقر والحرمان، ولكن القراءة فتحت له كنوز العقول، وبها استضاف عقولاً كبيرة صقلها عقله في تركيبة بنيوية أنتجت ما لم تنتجه عقول عصره.