حينما تحصل على ترشيحات كبرى، مثل أفضل فيلم أجنبي غير ناطق بالإنجليزية في «الأوسكار» و«الغولدن غلوب» و«البافتا»، وقبل ذلك الفوز في «مهرجان كان السينمائي» بجائزة لجنة التحكيم، فهنا لا يمكن إلا أن يكون فيلماً مهماً بمعايير فنية عالية وموضوعاً لافتاً، استطاع أن يجبر الجمهور والنقاد وحضور المهرجان على التصفيق طويلاً. وبالتالي فإن نادين لبكي بفيلمها الثالث، تضع نفسها كأحد أهم المخرجين العرب حالياً، وتقدم ما يمكن اعتباره إنجازاً عربياً غير مسبوق في تاريخ السينما العربية. عطفاً على كونه فيلماً عربياً خالصاً بهويته وشخوصه ومكان تصويره والطاقم الذي يقف خلفه.

رؤية المخرجة
الأمر هنا يتراوح ما بين القصة ذاتها وطريقة تنفيذها المتعلقة بالإخراج ورؤية المخرجة نادين، وهي على كل حال سبق أن قدمت فيلمين جيدين بداية من عام 2007 مع فيلم «سكر بنات» الكوميديا الرومانسية حول حياة خمس فتيات في مشغل نسائي في بيروت، والذي شاركت فيه خارج المسابقة الرسمية في كان. ثم عام 2011 مع فيلم «وهلأ لوين»، والذي بدا درامياً ذا رسالة حول التعايش بحس كوميدي، حول مجموعة من النساء يحاولن كسر حدة التوتر في إحدى القرى بين سكانها من المسلمين والمسيحيين، وكانت نادين أيضاً قد فازت فيه في «مهرجان كان» بجائزة François Chalais Award.
ثم جاء فيلمها «كفرناحوم» الذي يمكننا أيضاً التقاط الثيمات الأساسية في أفلامها. فهي ذات رسالة غالباً والتي تنزلق أحياناً في عرضها بشكل مباشر ووعظي، ثم هناك المرأة التي تمتلك الحلول بقدر ما تعيش المعاناة، وأخيراً فهي تعمل كثيراً على إجراء مسح ديموغرافي لأبطال قصصها وتشكيل أكبر عدد من شرائح المجتمع لعرضها بطريقة مختلفة لا تخلو من كوميديا هزلية.

البطلة ليست امرأة
في «كفرناحوم» ليست البطولة عند امرأة، كما في فيلميها السابقين، لكن حضور المرأة يبدو جلياً ومؤثراً للغاية. فالقصة هنا عبر طفل وهو ما يمثل البراءة والضحية. طفل يبتدئ به الفيلم وهو يرفع شكوى إلى المحكمة على أهله الذين أتوا به إلى الحياة، ليعيش حياة الفقر والمعاناة، ويشهد أحداثاً أخرى يبدو فيها الظلم والتعسف جلياً ومؤلماً. هذا الطفل «زين» يحضر من السجن ليقدم شكواه، حيث يقفز لدينا التساؤل حول وجوده في السجن، لنكتشف أن هذا الأمر نتيجة محاولته قتل شخص عبر طعنه بسكين، مما ينقلنا إلى السبب الذي يفصح عن أمر غاية في الألم والتسلط من قبل أهله، الذين كان غائباً عنهم لفترة، يتجول بين شوارع بيروت الشعبية وأحيائها العشوائية، يبحث عن لقمة عيش ومسكن، قبل أن تلتقطه عاملة إثيوبية تعيش مع طفلها الرضيع ليسكن معها ويعمل على رعاية الطفل أثناء غياب أمه في عملها المجهد.

قصة جذابة
بقدر ما تظهر القصة جذابة ولافتة أيضاً، بقدر ما تبدو وقد حشدت بشكل تعسفي، وتحولت أحياناً لنوع من الإنشاءات الدعائية، إلا أن هذا الأمر لن يبدو مهماً وأنت تشاهد الفيلم، وفق رؤية إخراجية بارعة في التصوير والالتقاط وتكوين المشاهد التي عملتها نادين لبكي، والتي لا نشك في صعوبتها ومستوى الجهد المبذول في مثل هذه الأماكن من التصوير، عبر كاميرا متلصصة وحادة تعطي الفيلم جواً خاصاً من الواقعية المؤلمة.
تقول الناقدة أندريا غرونوفال من شيكاغو ريدر عن هذا الأمر: «إنه عرض أساسي للطرق التي ينير بها الحياة الصعبة الشديدة التي لم يكن بوسع الكثيرين منا تخيلها» فيما تصف روين أندرسون من ساتل تايمز هذا الفيلم بأنه «عمل حكيم لا ينسى».
في النهاية لا يمكننا أن نفوت الإشادة بالأداء الرائع الذي قدمه زين الرافعي بدور الطفل زين، وهو في الحقيقة طفل لاجئ منذ ثماني سنوات، يشارك هنا لأول مرة قبل أن ينتقل مع عائلته إلى النرويج، مما يعكس شيئاً من واقع «الطفل زين» في الفيلم الذي كان فيه فقيراً يفكر في الهجرة إلى أوروبا.

في وداعه
كتبت نادين لبكي في رسالة لزين نشرتها على حسابها على «انستجرام»: «قبل أسابيع قليلة ودعنا زين وعائلته، الذين توجهوا إلى النرويج لبدء حياة جديدة. وقبل دقائق من توجهنا إلى المطار شاهدته وهو يلقي النظرة الأخيرة على الحي الذي عاش فيه حياته لثمانية أعوام، حياة كانت صعبة لأنه كان لاجئاً. في تلك اللحظة، كان زين طفلاً أُبعد عن وطنه، وكل ما كان يعرفه في طفولته. لم يكن زين سورياً، أو لبنانياً، أو نرويجياً، أو مسيحياً، أو مسلماً. كان طفلاً يدفع ثمن حروبنا السخيفة من غير أن يدري سبب وقوعها».