الكثير من نصوص القرن الـ19، جسدت حالات حب تحولت مع الزمن إلى حقيقة أنستنا افتراضيتها الأدبية من خلال المشهدية السينمائية التي قربت كل شيء. فيلم آنا كارنين الأخير (إنتاج فرنسي - بريطاني، إخراج جون ورايت) أعادنا لأزمة القرن الأخلاقية التي كانت آنا كارنين ضحيتها الكبرى.
آنا كارنين امرأة لم يكن يشغلها مالها ووجاهتها الاجتماعية أمام حب غائب، مجرد واجهة اجتماعية، في حاجة إلى حب يعيد لها أنوثتها وروحها وإنسانيتها، بينها وبين زوجها فراغ كبير، من النفاق الاجتماعي، والأخلاق الفاسدة سياسياً وثقافياً. لم يكن ألكسيس كارنين، زوجها، مقصراً اجتماعياً. فقد منحها الرخاء والحياة السهلة والمال والوجاهة الاجتماعية وابنها سيريوجا، لكنه عجز عن أن يمنحها الأمان العاطفي. ظلت تمثل دور الزوجة المبتورة والطبيعية في مجتمع قيصري في فترات تهالكه، ومجتمع سان بطرسبورغ الغني.
في إحدى زياراتها لأخيها ستيفا أوبلومفسكي، في موسكو تلتقي الكونت فرونسكي الذي سيصبح كل شيء في حياتها. تقاوم عاصفة هذا الحب لكنها لم تستطع مقاومته، تحمل منه، فتتكاتف عليها العقد الأخلاقية، تتخذ قرار مغادرة زوجها والطلاق منه، بعد أن أخبرته بحملها، لكنه يرفض بسبب الوجاهة السياسية فيطلب منها وهو في سفره البقاء ولو شكلياً، وتلد آنا بنتاً، لكن الحمى كادت تقتلها، وهي في فراش الموت تطلب من زوجها أن يغفر خطأها وهو ما فعله، وترى في الموت حالة تحرر من هذه الحالة القاسية. لكن تشاء الصدفة أن تلتقي عشيقها فرونسكي ثانية، وترتمي في حضنه مرة أخرى، ويهربا معاً إلى إيطاليا. لكن سرعان ما يندم فرونسكي على مستقبله العسكري. وعندما عادا إلى موسكو، صمما على أن يعيشا على أطراف المدينة مع المعجبين بقصتهما وتحديهما. غنى فرونسكي سمح له بتخطي كل عقبات الحياة المادية. بينما أحبت آنا كارنين حبيبها وعشيقها فرونسكي بقوة. تخلت عن كل شيء من أجله ورسمت معه مستقبلاً آخر تجد فيه نفسها كامرأة وشابة يحق لها أن تعيش هذا الحب. عقدتها بخيانة زوجها والتخلي عن ابنتها ظلت تعذبها. الصدمة الكبرى تحدث عندما تكتشف علاقته بسيدة أخرى من سيدات سان بطرسبورغ تشبهه في غناه. وتحت تأثير أمه يترك آنا كارنين، التي تخلت عن كل شيء من أجل عشيقها، ويعود لخياراته العسكرية ومستقبله. فحملها منه ليس إلا تحدياً لمجتمع لم يكن يرى في المرأة الجميلة إلا واجهة. وكما كل قصص الحب العظيمة تكون المرأة في كل مرة هي القربان القاسي الذي يخلد هذا الحب. تلقي بنفسها في النهاية تحت عجلات القطار. قوة القصة وتعبيراتها الإنسانية أنها ليست متأتية من فراغ، أو من مجرد حالة تخييلية استثنائية. فقد رأى تولستوي جارته تلقي بنفسها تحت عجلات قطار مزق أطرافها، في محطة لاسينكي. هل نحب آنا كارنين لأنها كانت صريحة، متحدية، صادقة في حبها، ومجنونة بالمعنى العشقي للكلمة؟ أم نكرهها لأنها خانت ألكسيس كارنين الذي لم تكن تهمه في النهاية إلا شخصيته وواجهته.
من هنا يبدو أن النصوص العظيمة والناجحة هي تلك التي استطاعت أن تخترق الزمان، وتتجاوز حدود العصر الذي أُنتِجت فيه لتتحول إلى أيقونة لا زمنية. انتقالها من الكتابة إلى السينما لا يلغي قيمتها، ولكنه يرسخها في الحاضر الذي تصبح فيه جزءاً حياً منه. تتحول إلى تعبير متعالٍ عن زمن وعصر يعاش، على تماس مستديم مع حاضر ينشأ أمام أعيننا.