نظل نمضي في طريقنا في الحياة، نبحث عن تلك الحقيقة التي من خلالها نرى ذواتنا ونتعرف إلى ماهيتنا الإنسانية وندرك مدلولات الحياة والموجودات من حولنا، ونظل نبحث عنها بين عقول الباحثين والراحلين عبر دروب المعرفة، وفي لحظة ما نتوقف وكأن الزمن يغادرنا وتتجمد اللحظات، وفي مشهد حالم يعلو صدى يغير منظور العالم في عينيّ لأجدني هنا، حيث صحراء ممتدة عند حافتها يقف الجبل شامخاً راسياً ويعلو الصدى فيقع في الروح دبيب صداه، ليفتح بوابات تخبئ خلفها محراب الحياة، يرتل الصدى ليخالط دهشة النور المتوهج من وسط بقعة ضوء تولد من عمق عتمة الروح. وهناك عند المحراب تقف الأحلام، تلوح لي، توقد في جذوة الأمل، وحينها أهرول إلى حيث يناديني الصوت، تلسع قدميّ سخونة الرمال، وعندما أقترب من الجبل وتعلو همهمات الصخر، تبكي الغمامات التي خبأت الشمس عن صحراء الروح، فيتساقط المطر منهمراً وترتوي صحراء العمر العطشى.
يبقى صدى الباحثين عن الحقيقة حياً يتردد في طريق الحياة. مئات الأصوات تحوطني، وتخترق عقلي وقلبي، في خلفية المشهد أصوات تنبع من داخلي، هي صدى صخب الأفكار المتزاحمة في عقلي، تعكس طنين المعرفة فيه ويتمازج أحياناً مع كل الأصوات الصاخبة ويصمت أحياناً، لكن يظل ذلك الصوت خافتاً لا أدركه، حتى أغادر إلى الجبل في لحظة ترتيل الروح حين تجهدنا حالة البحث. وهناك حيث قسوة الصخور وقوة الوجود يأتيني صدى الجبل، يردد (أنا الصوت.. أنا الجبل.. أنا أنت يا صانع الصوت بين صخوري فلتقترب). أشعر بقرب الصوت يخرج مني كإعصار يختلط بالمطر فيحفر في الجبل أخدوداً يتدفق منه الماء ليلين الجبل. وفي وحدة السكون يتردد صوت الجبل، تنكشف أمام روحي الحقيقة التي بحثت عنها طويلاً في سراديب ووديان الآخرين، لأجدها مخبوءة في ذاتي تحت ركام الدهشة بالآخر، يتردد ذاك الصوت الذي أعاد لحياتي توازنها حين أدركت معه أنني أحتوي الحقيقة مخبوءة عمراً طويلاً، نبحث عنها خارج حدودنا، ولكنها كانت تسكننا كمغارة تائهة في جبال أرواحنا نعثر عليها في لحظة انصهار الزمن وانهيار الأصوات الأخرى، ليخرج صوتك نقياً واضحاً ينشدها. بعد كل هذه السنوات من العمر تتجرد تلك الحقيقة أمامي حين نسيت كل الأصوات مستمعة لصدى صوتي عند الجبل. لقد تاهت خطواتي أعواماً طويلة عن ذلك الصدى، حتى وصلت إلى ظل الجبل أنشد الريح لتحملني إلى قمته.
يا قارئ حرفي، فتش عن صوت الحقيقة في روحك قبل أن تفتش عنها خارج ذاتك، فتظل باحثاً عنها إلى أن تأتيك في خريف العمر، استمعوا وأنصتوا لصدى ذواتكم أولاً.