يمضي الناسُ في بناء مجمعٍ سكني ضخم، يحوي كُل احتياجاتهم السكنية والترفيهية فيما يشبه القوقعة، مبنى بلا نوافذ تحكمه الآلة في مجتمعٍ صناعي وسوق استهلاكية، إلى حدٍّ يدفع بالإنسان إلى أن يتخلَّى عن كل مِنَح العالم الفسيح نظير بقائه في الداخل، كمن يبني سجنه بنفسِه وبكامل إرادته وعن طيب خاطر. وأثناء عمليات الحفر يكتشف الناسُ كهفاً يضمُّ هياكل أناسٍ مقيدة بالسلاسل، فيحيلونه مزاراً نظير لقاء مادي.
الفكرة أعلاه واحدة من الأفكار التي طرحها جوزيه ساراماغو في رواية «الكهف»، متكئاً على فكرة كهف أفلاطون وأزمة الإنسان الحديث الذي لا يعرف من الحقيقة إلا ظلالها. وربما لم تستوقفني فكرة ساراماغو الذكية للإشارة إلى عزلة الفرد في مجتمع استهلاكي، بقدر ما استفزَّتني فكرة تفريغ كل شيء من قيمته المعنوية وتحويلها إلى قيمة مادية صِرفة. فالطبيعة منحت أولئك الناس أمثولة الكهف أثناء عمليات الحفر، ولم يكن الكهف إلا نذيراً لأولئك البشر من سوء عاقبة بناء المجمع الذي سوف يصير فيما بعد سجناً اختيارياً، ولكن الناس لم يروا في الكهف أي قيمةٍ معنوية أمام قيمة الاكتشاف المادية، فقام الإنسان بعمل تذاكر سياحية لزيارة الكهف الاكتشاف لجني المزيد من المال. ولا أدري إن كان هناك غيري من القراء من استشعر غصة إزاء تلك الهياكل التي أمضت قروناً في الكهف، لتصير في مآلها مجرد فرجة، ولا أحد يفكر في أن تلك الهياكل كانت بشراً من لحمٍ ودم، لها حيوات وحكايات وتجارب، ولم يلتفت أحد إلى السلاسل في أطرافها. لم أشعر بحسرة على الإنسان الذي اختار جحيمه بإرادته بتسليع كل ذي قيمة، ولكن.. الهياكل العظمية!
 تذكرت تفاصيل رواية ساراماغو وأنا أتناول وجبة في أحد المطاعم التي تقدم الأطباق المحلية، وأعرف أن مُلاك المطعم أبناء إنسان يجله الناس ويقدرونه، لحسن سيرته في المجتمع وطيب أفعاله، رحمه الله، ولكن ما آلمني، وليته آلم أبناءه، هو أن يتحول ذلك الرجل الطيب إلى صورةٍ في دفتر قائمة الطعام، يظهر بزيِّه التقليدي بين روائح التوابل وآثار الزيت وبقايا الأرز. اسم ذلك الرجل هو أغلى ما ملكته تلك العائلة، ولكنها لم ترَ في طيب ذكره إلا قيمة مادية حولته إلى ما يشبه الكولونيل كنتاكي في مجتمع يفرغ الأشياء من قيمها، كل القيم، إلا تلك التي تدر الأرباح!