بتوحيدها للفكر الإنساني والعلوم في مكان واحد، مثلت «مكتبة الإسكوريال» نموذجاً لروح العصر الجديد في أوروبا، وتشتهر المكتبة الملكية لدير (سان لورينزو دي) في إسبانيا، باستعادتها مناخات الأندلس أيام الحضارة، من خلال احتوائها على أكبر مجموعة من المخطوطات العربية القديمة.

في القرن السادس عشر، أراد الملك فيليب الثاني ملك إسبانيا، بناء مكتبة لا تقتصر على الكتب والمخطوطات في الفلسفة واللاهوت فحسب، بل أيضاً على أدوات التعلم العلمي مثل الكرات والأسطرلاب المزخرفة، سواء السماوية أم الأرضية، وفي وقت سابق كان يُعتبر هذا النّسق من التفكير «هرطقة»، ولكن التركيز الجديد على جمع العلوم الدينية والدنيوية في بَوْتقة واحدة، شكّل آنذاك نافذة استشرافية معنونة لبداية ما يُسمّى عصر النهضة. وبحلول عام 1602 كان للمكتبة أكثر من 150 أداة حسابية، إضافة إلى الخرائط العالمية والأعمال الفنية لأعظم فناني العصر.

صرح مهم
تقع المكتبة في «قصر إسكوريال»، على بُعد 50 كيلومتراً شمال العاصمة الإسبانية مدريد، وهي جزء من مجموعة مباني الإسكوريال المكونة من القصر الملكي، الدير، الكنيسة، المعهد الديني، المتحف وعدد من الأبنية الصغيرة، وتُعدّ من أهم الصروح الملكية في أوروبا لضخامتها ومحتوياتها الفنية الشهيرة، واشتق الاسم من اللفظ الإسباني إسكورياس (الحديد المصهور)، لوجود المبنى في موقع أقدم مناجم الحديد في إسبانيا.

هندسة مختلفة
صممت المكتبة من قبل عبقري الرياضيات والمعمارية خوان دي هيريرا عام 1563، وهي أول مكتبة في القارة الأوروبية تنفصل عن المعتقدات العقائدية في العصور الوسطى من ناحية الهندسة المعمارية والديكور. ويُعتقد أن تصميم «مكتبة الفاتيكان» وزخارفها في روما، استُلهمت من أعمال هيريرا في «مكتبة الإسكوريال». تبلغ أبعاد صالة المكتبة 45 متراً طولاً، و9 أمتار عرضاً، ويبلغ ارتفاعها 10 أمتار، وسقفها مُزيّن بالصور، وأرضية المكتبة من المرْمَر، وصُنعت رفوفها من الخشب الثمين.
أثّرت خطة المساحة أيضاً في كيفيّة عرض المكتبات في جميع أنحاء العالم لمجموعاتها. إذ كانت «الإسكوريال» أول مؤسسة تعرض كتبها ومخطوطاتها في شكل الرفوف على طول الجدران. وقد تم ذلك بحيث تكون العناوين مَرْئيّة للزائرين لتجنب الأضرار التي لحقت بالكتب عند إخراجها للعرض. إذ كانت توضع في الرفوف وظهرها إلى الحائط بهدف تهويتها، كما كانت تخط عناوين واجهاتها بماء الذهب.

محتويات
تحتوي المكتبة الآن على نحو 45000 قطعة بين مجلد، مخطوط، خرائط، رسوم، منحوتات ونقود، وتغطي المجموعة الهائلة كل شيء من الفلسفة إلى السياسة إلى الشعر، مكتوبة بلغات مختلفة، بما في ذلك اللاتينية، اليونانية، الإيطالية، الإسبانية، البرتغالية، الإنجليزية، الفرنسية، العربية، الفارسية، العبرية، الصينية ولغات أخرى، والكثير منها يعود إلى القرون الـ15 والـ16 والـ17. كما تحتوي صالات العرض المركزية على العديد من المخطوطات النفيسة، معروضة على طاولات رخامية.
تزيّن اللوحات الجدارية الملونة السقف، الذي يصور مشاهد من التاريخ الكلاسيكي، والذي يمثل ما اعتبره القدماء الفنون السبعة الحرة: القواعد، البلاغة، الجدل، الحساب، الموسيقى، الهندسة وعلم الفلك، إضافة إلى التنجيم، وتظهر رسوم لـ14 لوحة، تعرض مشاهد تهدف إلى تشجيع الزوار على تقدير الفنون. كما زُينّت أرفف الكتب بصور الملوك الإسبان، وأكثرها شعبية هي تلك التي رسمها فيليب الرابع من دييغو فيلاسكيز.

قصة شغف
من بين الأشياء الأكثر روعة في المكتبة، هناك العديد من الكرات الباروكية والأجسام الدائرية الرائعة، والتي تحكي بوضوح روح الملك فيليب المتعطشة للعلوم، إذ يُقال عنه إنه كان يقضي معظم وقته في المكتبة، يدرس هذه الأدوات بصحبة فلكيّين وجغرافيين ومُنجّمين.

نفائس عربية
تُعتبر المكتبة حالياً إحدى أهم المكتبات التاريخية في العالم، بفضل مخطوطاتها اليونانية والعربية النادرة، إذ تضم نحو ألفي مخطوط عربي، كما تضم مؤلفات أدبية لعلماء عرب في القرون الوسطى. ومجلدات مثل «القانون في الطب» لابن سينا، و«الكامل في اللغة» للمبرد، وكذلك مخطوطات متنوعة عن الفقه وعلوم القرآن وعلوم اللغة والطب والفلسفة والمنطق. لكن بفعل حريق اندلع في عام 1671 وأثناء حروب نابليون خسرت المكتبة الكثير من الكتب ومع ذلك، لا تزال تحتوي على الكثير الثمين من آلاف المجلدات، وتُعد كنزاً للعلوم لا سيّما الرياضيات.