في الـ21 من مارس الجاري، تنطلق فعاليات الدورة الخامسة لـ«مهرجان أفلام السعودية» والتي ستضم أكثر من 150 فيلماً قصيراً، هذا يعيد بي الذكريات إلى الدورة الرابعة من المهرجان عام 2017، حيث كنت قد تحدثت وقتها عن أفضل الأفلام السعودية القصيرة التي شاهدتها في المهرجان، وذكرت منها حينها فيلم المخرجة مها الساعاتي «الخوف: صوتياً»، والذي للمفاجأة لم يكن ضمن الأفلام التي دخلت المسابقة، ولذا لم يكن له أي حضور في جوائز المهرجان ولم يلفت الانتباه كثيراً.

«عش إيلو»
بطبيعة الحال كنت أعتقد أنه لا يمكن أن يكون هناك سبب فني يمنع دخول مثل هذا الفيلم في المسابقة أو حتى فوزه بأحد أهم جوائزها، فالفيلم يتجاوز بشكل كبير معظم الأفلام التي نالت النصيب الأكبر من التقدير وتسليط الضوء، سواء على مستوى الفكرة والمعالجة أم الحس التجريبي غير التقليدي. وحدة التعبير عن رؤية مخرجة العمل مها الساعاتي، إذ اكتشفت يومها أنني سبق أن شاهدت لها فيلماً آخر بدا في وقتها غريباً بعض الشيء، ذا مضامين محفزة للنقاش والجدل وهو فيلم «عش إيلو» والذي يحكي قصة (طفلتين تلعبان بالدمى لتظهر امرأة غريبة وتخبرهما عن أسطورة «أسوانق» الفلبينية، والتي ينفصل رأسها عن جسدها للبحث عن دماء البشر. يحرك الفضول إحداهن للبحث عن عش هذا الوحش في حقول مجاورة، فتضطر صديقتها إلى مواجهة مخاوفها الدفينة). لم تكن طبيعة الأفلام السعودية معنية بهذا النوع من القصص، لكن المخرجة مها الساعاتي ميالة بطبعها إلى الغرابة والتجريب والتعبيرات الرمزية وحتى الكوميديا السوداء المختلفة، كما يظهر من بقية أفلامها القصيرة، مثل «آفة إلكترونية» «كليني: دورة التفاح» وآخر أفلامها «شعر: قصة عشب» الذي عرض مؤخراً في «مهرجان سلام دانس» في أميركا.

غريزة الخوف
ولنعد الآن إلى أبرز أفلام المخرجة مها الساعاتي «الخوف: صوتياً» والذي يبلغ 22 دقيقة، وتم عرضه في «مهرجان مدريد الدولي» و«مهرجان الفيلم العربي» في باريس، حيث حاولت المخرجة من خلاله أن تجسد «الصوت» كنوع من المشاعر ما بين أشدها، وهو الخوف، تلك الغريزة الأكثر تأثيراً في النفس، والأمل والألم والشوق والحياة. فالقصة تدور حول الشابة أمل، موظفة في شركة مختلطة لكنها تعمل في القسم النسائي، كمصممة تدير القسم وتقدم الدورات التعليمية وتحظى بتقدير ومحبة من زميلاتها في العمل، تتجاوز أحياناً مشاعر التقدير من إحدى الزميلات إلى نوع من المشاعر الدافئة والحميمية تجاهها، والتي تختفي فجأة، بينما تتلخص باقي علاقتها ما بين مدير الشركة الذي يريد أن يظهر كشخص واعٍ ذي تجربة في الحياة لا ينفك عن إسداء نصائحه، لكنه في الوقت نفسه يبدو شخصاً غير مبالٍ، ومدير القسم الرجالي المتعنت بالكثير من الصرامة والتوجيهات تجاه الموظفين.

أصوات
يبتدئ الفيلم مع أمل وهي تمشي في الطريق لتسمع موعظة دينية من أحد الدعاة المتحمسين الذي ينذر بالويل والثبور لاقتراب يوم القيامة، وهنا يتجسد صوت «الخوف» الذي يفزع أمل لدرجة أنها تتصل بإحدى صديقاتها في حالة من الحيرة والبحث عن صوت مطمئن، فيما يتناهى لسمعها بين الفينة والأخرى حتى في أحلامها. بينما يأتي الصوت الآخر المعبر عن الحياة ومن ثم الألم وهو صوت القطط في الشركة والتي لا نراها، لكن صوت موائها يصل إلى جميع الموظفين، مما يزعج مدير القسم الرجالي خلافاً لأمل، التي ترى فيه صوتاً للحياة والميلاد الجديد، بينما مدير القسم يطلب إخراج هذه القطط ورميها خارج الشركة، لنسمع فيما بعد صوت القطة الأم التي فقدت أبناءها كصوت متقطع من الحزن والألم، لدرجة التأثير في موظفي الشركة في مشهد أقرب إلى الحلم السريالي في نهاية الفيلم.

فكرة نسوية خاصة
لكن من جهة أخرى سنجد أن أمل فتاة يكسوها الحزن غالباً ونوع من التململ الكئيب، ولذا فإن أقوى الأصوات تأثيراً فيها هو صوت الخوف، ولذا فإنها كثيراً ما تداهمها الأحلام المزعجة والكوابيس، والتي صورتها المخرجة بالألوان خلافاً لبقية الفيلم الذي تم تصويره بالأبيض والأسود. وعلى الرغم من أن المخرجة أشارت في أحد لقاءاتها أيضاً إلى أن التصوير بالأبيض والأسود كان لسبب تقني واختياراً للطريقة الأسهل والأسرع والأقل تكلفة من أجل إنجاز الفيلم، إلا أن هذا الاختيار بدا فنياً بطريقة ما، خاصة إذا ما شاهدنا أن كـــل المشاهد العبثية ذات النفـس السريالي كانت ملونة والتي كانت تأتيها في أحلامها، مما جعل النهايــــة «الملونة» أيضاً محل حيرة لدى المشاهد، إذا ما كان مشهداً واقعياً ملوناً خلافاً للثيمة الأساسية، أم كان مشهداً يلحق بمشاهد الكوابيس والأحلام التي تأتي ملونة؟ عطفاً على فكرة المشهد والتي تعبر عن الدمار والموت المهيب الذي يسببه صوت القطة الأم المكلومة.في النهاية لا يمكن أن نتجاوز فكرة أن الفيلم، وكما هي عادة المخرجات السعوديات، يمكن أن يصنف كفكرة نسوية خاصة، إذا ما رجعنا لبقية أفكار وأفلام المخرجة مها الساعاتي إجمالاً، لكن الفرق هنا هو في مستوى المعالجة غير السطحية، والتي تجعل المشاعر النفسية محوراً ومحلاً للصراع وليس القضايا الجدلية المعتادة.