يشيع بيت المتنبي (لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى/ حتى يراق على جوانبه الدم)، وتجنح الألسنة أن تلهج به كمقولة في مناسبات تعتري المتمثل به، كلما تعرض لموقف تعز عليه فيه نفسه، ولكن الطريف في الأمر، أن البيت ينطوي على نوع من التوحش الثقافي، حيث يضع إراقة الدماء حلاً لمشاكل الحياة، ويزيد بأن يوازن بين حقوق الشرف الرفيع، وإراقة الدماء. وهو ليس بيتاً في المجاز الشعري، لأنه ليس مجازياً أصلاً، ولكنه مما يسمى بشعر المعاني أو شعر الحكمة (إن كان في هذا القول أي حكمة) وهذا نوع شعري ينتشر في الشعر العربي وينتشر في المحفوظات المعتادة عند الناس، وترسم نظام تفكيرهم ونظام رؤيتهم وفهمهم للشأن البشري العام، وهي عادة أبيات تحتل الذواكر وتستعمرها حتى تحول دون نقدها أو التمعن بها، ولو طرحت فكرة النقد لها لجاء من يقول إنها تعبير مجازي، ولكنها في حقيقتها ليست تعبيراً مجازياً، فهي من الوضوح والقطعية لدرجة لا تحتمل تعدد المعاني ولا تحتاج لقرائن تفك تركيبة المعنى. ولن تكون عبارة (إراقة الدماء) تعبيراً مجازياً إلا لو افترضنا أن عبارة (الشرف الرفيع) مجازية أيضاً، وحينها لن يكون للبيت أي معنى، وسنضطر لتأويل الجمل هنا بحيث تزول صلاحية البيت للاستشهاد، والواقع أن الناس يستجلبونه من الذاكرة بقصد معانيه الواضحة، وهذا ما يشيع ترديده في الأزمات الذاتية، وكأنه إعلان حرب اجتماعية تجعل الدم هو الحل، مما يكشف عن المضمر النسقي للثقافة، بما أنها تميل إلى تغليب القطيعة مع كل أنظمة التعامل التفاوضي، وتقوي القمعية والتسلطية الذاتية وتقديم الذات المتعالية صاحبة الشرف الرفيع، مقابل وصف الطرف الآخر بالوضيع، وتؤسس لنظرية في العلاقات العامة تقوم على الفتك والتقتيل، ويأتي بيت شعري واحد يترجم هذه المعاني السالبة، ويظل يدور على الألسنة قرناً من بعد قرن، من دون أن تتحرك حاسة نقدية لتوقف مقولة في العنف تزيد من توحش الثقافة ونسقيتها.