في «توليدو» أو «طُلَيْطلَة»، تجتمع الحضارة والتراث لتؤلف أجمل القصائد عن الحب والإنسانية والتعايش السلمي، هي المدينة التي حملت اسماً يليق ببواباتها وسماحة وجهها البشوش، الذي يستقبل زائريها بثغر مبتسم، وحضن دافئ ومفتوح للجميع، باختلاف الأعراق والأجناس والألوان.

هي مدينة قديمة للغاية، ويغلب أنها بُنيت في زمن الإغريق، ازدهرت في عهد الرومان، فحصنوها بالأسوار، وأقاموا فيها المسرح والجسر العظيم، وبلغت «طُلَيْطلَة» ذروتها في عصر الخلافة الإسلامية عندما كانت جميلة، اشتهرت أيام الحكم الإسلامي لإسبانيا، إذ كانت مدينة أندلسية عريقة في القدم. اسم «طُلَيْطلَة» تعريب للاسم اللاتيني «توليدوث» (Tholedoth)، وكان العرب يسمونها مدينة الأملاك، لأنها كانت عاصمة مملكة القوط، هي المدينة التي تعد عنوان التسامح، حين ضمت وجمعت تحت ظلها مختلف الديانات، رافعة صوت المآذن وقرع أجراس الكنائس معاً، تحت راية وشعار وحيدين هما (السلام والأخوّة) فتعايش فيها المسلمون والمسيحيون واليهود في حب ووئام، ورغم العديد من المنازعات والخلافات لا تزال اليوم مدينة مطرّزة بالفرح والابتسامة.

تاريخ حافل
تقع «توليدو» على بعد 71 كيلومتراً من العاصمة الإسبانية مدريد، وهي القلب النابض لمقاطعة كاستييليا لامنشا، وقد كانت العاصمة السياسية لإسبانيا حتى أواخر الخمسينات، ضُمّت منذ ثمانيات القرن الماضي، ضمن أجمل المدن التراثية والتاريخية في قائمة التراث الثقافي العالمي لـ«منظمة اليونيسكو»، ويعود ذلك إلى تاريخها الكبير والحافل.

على غرار الجانب والإرث التاريخي والثقافي الضخم للمدينة، تحتل «توليدو» أهمية سياحية بالغة، فيما يتعلق بالطبيعة الجغرافية الجميلة التي تميّزها عن غيرها من المدن الإسبانية الشهيرة، إذ تحظى بإقبال سياحي كبير، فموقعها فوق مرتفعات نهر «آل تاخي» (التاج) الذي كان شاهداً على الكثير من الأحداث التاريخية من فتوحات ومنازعات وسلم، تتوسط وتحدّ النهر بوابات ضخمة، وقلاع وأسوار وأزقة ضيقة وجميلة يمتد تاريخها إلى القرون الوسطى.

نستهل أبرز تلك المعالم «بكاتدرائية سانتا ماريا توليدو» الغنية عن التعريف، يعود تاريخ بنائها إلى القرن السادس، بإشراف ودافع كل من الملك «فاريدناند الثالث»، وقديس الأساقفة «رودريغس خامينيس دي رادا»، وكانت في البداية تتخذ نمط الكاتدرائيات الموجودة بـ«إيل دو فرانس» الجزيرة الفرنسية، وذلك يعود لمصممها فرنسي الأصول «مارتن» في البدايات، لتكون بمثابة محكمة أو دار للقضاء، وخاصة أنها تشتهر ببواباتها الأربع: «بوابة العدل»، «بوابة جهنم»، «بوابة الغفران» و«بوابة الساعة»، هذه الأخيرة التي تُعتبر من البوابات الأجمل شكلاً في الكاتدرائية، حيث الساعة ذات الأرقام الرومانية المعلقة تزيدها هيبة وجمالاً، وكأنها تقول أنا الشاهدة على الوقت والزمن.

بوابة سياحية
تعدّ كاتدرائية «توليدو» اليوم، الأكبر في المدينة من حيث المساحة، ومن حيث حجم الإطلالة البانورامية الذي تمنحه لزوارها من خلال شرفتها الواسعة، ففور دخولك الكاتدرائية ستُقابلك أعمدة مذهّبة منقوشة بزخارف رومانية ساحرة، تختبئ خلفها أحد الأعمال الإغريقية الأكثر جمالاً في الكاتدرائية، وهي أيقونة فنية تحمل دلالات عن المسيح (عليه السلام)، كما تضمّ بين أرجائها أعمالاً فنية ضخمة لأشهر الفنانين والرسامين في إسبانيا من أمثال «رافاييل»، «روبينز»، «غويا»، «تيتيان»، فضلاً عن مجموعة الجداريات الفسيفسائية التي تزين أسقفها الملونة، وعدد من اللوحات والـ«بورتريهات» الخاصة بكاردينالات «توليدو» سابقاً.

مسجد «كريستو دي لا لوث»: الذي بني منذ أكثر من 1000 عام، وهو من المساجد التي حولت أثناء حكم القوطيّين إلى كنائس، لكنه لا يزال حتى اليوم يحمل اسم «ميسكيتا»، وتعني مسجد، وهي تسمية تعود إلى وجود الحكم الإسلامي في «توليدو» منذ ذلك الوقت. هناك رواية يسردها أهالي المدينة، تقول إنه وعند دخول الملك ألفونسو السادس «توليدو» عام 1085، كان يمتطي جواداً، وعندما اقترب من بوابة المسجد ركع الجواد أمام المسجد.

أما «لا اغليسيا دال سلفادور»، فهي كنيسة «سالفادور» التي كانت بالأصل عبارة عن مسجد، حُول لاحقاً إلى كنيسة مثل بقية المساجد، ترافقها كنيسة «سانتو تومي»، ومسجد «دودونك» الذي يشبه بطرازه وزخرفات الخط الإسلامي الجميل، أحد القلاع الحصينة في عصر المماليك والسلاطنة، حيث تجد (أسماء الله الحسنَى) منحوتة على جدرانه بشكل لافت للانتباه، وتشبه تلك الموجودة في «مسجد قرطبة».

متحف «ألكاثار»، أي «متحف القصر» بأبراجه الأربعة الشاهقة، يعود تاريخ بنائه من قبل الرومان إلى القرن الثالث ميلادي، فكان في العهد الإسلامي الأندلسي عبارة عن قصر ضخم، أُحرق في إحدى الغزاوات، لكن جدرانه القوية لا تزال صامدة، تمّ تجديده وتحويله عام 1535 إلى متحف على يد المهندس المعماري «ألونسو كوفاروبياس»، بأمر من الإمبراطور «شارل الأول»، ليتوسع بعدها على يد «فيليب الثاني»، الذي كلف بدوره أشهر المهندسين المعماريين لتصميم فريد لساحة القصر وبلاطه، بتوقيع كل من «خوان هيريرا»، و«فرانسيسكو فيلالباندو». يضمّ متحف القصر اليوم مكتبة كبيرة يُطلق عليها اسم مكتبة «كاستيليا لا مانشا»، تشبه إلى حد كبير مكتبة «الإيسكوريال» في العاصمة الإسبانية مدريد، كما توجد فيه مساحة جانبية تحمل العديد من الوثائق والمخطوطات والمجلدات القديمة، جميعها تكشف عن تاريخ المدينة الغني بالأحداث والإنجازات، تدعى بمتحف «الجيش»، أما الحديقة التي تتوسط المتحف، فهي غاية في الروعة والجمال الطبيعي، حيث تحفها أشجار الزيتون من كل جهة لتورف ظلالها جميع من زارها. وغير بعيد عنها، تتربع قلعة «الإسكودوفر» الحصينة بتاريخها المفصل على جدرانها وأسقفها، من دون أن ننسى متحف «سنتا كروز».

سياحة الدرجات
على الرغم من توفر وسائل النقل المتعددة من سيارات وحافلات، غير أنه يُستحب في «طُلَيْطلَة» التنقل عبر الدراجة الهوائية، أو المشي بين الأزقة الضيقة التي تتوسط قلاعها، والتي تمتد على طول نهر التاج، الذي تحده أسوار وجسور المدينة المحصنة، والمرصوصة بطريقة فنية تجعلك تتأملها بدهشة وحيرة، لكيفية بنائها ورصّها بتلك الطريقة المنظمة جداً، على الرغم من قلة وسائل البناء آنذاك، يا لعجب الرومانيين! وتنتشر في مركز المدينة العديد من المحلات التجارية المخصصة لبيع التذكارات التاريخية لـ«توليدو»، وستجدون فيها العديد من القلادات التي كُتب عليها (أسماء الله الحسنَى)، وأسماء عربية أخرى، فضلاً عن بيع بعض المشغولات اليدوية للنسيج المشهورة في إسبانيا، كالأوشحة، والمروحة اليدوية التقليدية التي تشتهر بها «راقصات الفلامنكو» الجميلات.

لمسة عربية
مطبخ «توليدو» كغيره من المطابخ الإسبانية الشهيرة، غير أن اللمسة العربية التقليدية تطغى كثيراً على أطباقه، خاصة فيما يتعلق بـ«الباناديريا»، الخبز الذي تعجنه فلاحات القرى المجاورة لـ«توليدو»، بطرق تقليدية جداً، إلى جانب طبق طيور السمّان المشوي، وسلطة الفلفل المشوي الشهية، أما بالنسبة إلى طبق «الكاركاموساس» فهو الأكثر شيوعاً لدى أهالي «توليدو»، فهو من الأطباق التقليدية جداً والتي تجدها تقريباً موجودة في كل بيت، وخاصة في المناسبات، وهو عبارة عن لحم الأرانب مُتبّل بمجموعة خاصة من البهارات الإسبانية الحارة، ومطهوّ بطريقة الشوي على الفحم، يرافقه طبق مقبّلات يُطلق عليه اسم «تاباس» الأشهر في «توليدو»، ونجده الأكثر طلباً في المطاعم، باعتباره من المقبلات، ووجبة خفيفة في الوقت ذاته، يتكون من معجنات صغيرة محشوة بالجبن والفلفل واللحم المفروم، كما أن شوربة اللحم بالريحان اللذيذة «سوبا دي كارني كون بيستو»، و«لابايلا» المعروفة بلذة ثمار البحر، تُعتبر من الأطباق الشهية التي لا غنَى عنها، ولا بد لك من تذوقها.