تشترط العلاقات الاجتماعية مجموعة أسس ومعايير لتنساب بسلاسة وتصل إلى شاطئ الأمان. من هنا وجد البعض ضرورة   إدارتها بطريقة فنية، تضمن حُسن التعامل بين الأطراف وتنظّم علاقاتهم فيما بينهم، فلا تنكسر «جرّة» العلاقة بسبب تصرفات غير مدروسة، أو يتأثر الرابط الاجتماعي بتجاوزات من هنا أو هناك. إنه زمن البروتوكولات والقواعد، ومن المفيد أن يكون الأفراد فيه «فنانين» في إدارة علاقتهم مع الآخرين.

تحديد المسافة
عن طريقته في التعامل مع الآخرين، يقول مدير العلاقات العامة في إحدى الشركات، عبد الله القادري: «أخفقتُ في علاقتي مع بعض الأصدقاء مرات عدة، ولا أنكر أنني كنت مُلاماً على ضياع هذه العلاقات في مرات، كما كنت الضحية في أخرى. فكل شخص يتعلم من تجاربه». ويضيف: «تغيرت الأحوال الآن، لأنني بحكم وظيفتي شاركت في ورَش تدريب حول كيفية إدارة العلاقات الاجتماعية وجعلها مُثمرة. ناهيك عن قراءتي كتباً تتضمن الهدف عينه». ويختتم عبد الله القادري كلامه بالقول: «بات أسهل عليّ الاحتفاظ بصديق أو زميل أو قريب، لأني أدرك المسافة التي يجب أن أحددها لكل من هؤلاء».

الحواجز تسقط
من جهتها، تقول مدرّسة اللغة الفرنسية ناديا علم الدين: «من الصعب إيجاد مسافة بيننا وبين الذين تربطنا بهم علاقة وطيدة، فالحواجز والحدود والمعايير تسقط أمام الأشخاص الذين نحبهم ونعتبرهم الأقرب إلينا». وتستطرد: «بسبب منطقي هذا، خسرت صداقات كثيرة وصُفعت أكثر من مرة وغُدر بي، لكنني لم أستطع أن أغيّر من طبعي، ولا أن أبني جداراً بيني وبين الآخرين يَقيني شرّهم». وتختتم ناديا علم الدين: «قد أكون تعلمت أمثولة واحدة، وهي أنني إذا فتحت قلبي لصديقة وسلمتها أسراري وأعطيتها ثقتي فطعنتني في ظهري، تكون هي السيئة والوضيعة، لا صدقي وشفافيتي».

منذ الصغر
يلفت أستاذ التربية الدكتور محمد جاسم عكران، في تعليقه على موضوع إدارة المسافات، إلى أن: «التربية لها دور في تنشئة الطفل منذ نُعومة أظفاره على احترام الآخرين، وعدم تجاوز المسافات الفاصلة بينه وبينهم، أو التعدي على حرياتهم وخصوصياتهم، أو مخاطبتهم بصوت مرتفع، لاسيّما مَن هُم أكبر منه سنّاً، على أن يُدرب أو يستكمل هذه التنشئة في المدرسة لأنها في صلب الثقافة العربية، وهو يحملها معه في الكبر ويمارسها في علاقاته في العمل ومع الأصدقاء والجميع». ويتابع عكران في الإطار عينه مُختتماً: «للأسف هناك من لا يتربّى على هذه الأسس المهمة، ولا يتعلم إدارة المسافات منذ صغره، فنراه يتجاوز الحدود مع الآخرين ولا يحفظ للمقامات احتراماً أو لمن يتقدمونه في السن، فتحصل بينه وبينهم صدامات مزعجة، وتفشل علاقاته الاجتماعية أو تتصدع إلى درجة لا يعود في الإمكان رَأبها».

نمط العلاقات الإنسانية
«فن إدارة المسافات في العلاقات الاجتماعية هو علم يُدرس، ومن شأنه أن يحدد المعايير والأسس التي توجد شكل ونمط العلاقات الإنسانية فيما بينها». بهذا الرأي يبدأ رئيس قسم «علم الاجتماع» في جامعة الإمارات بالعين، الدكتور عقيل كاظم حديثه، فيقول: «يجب أولاً تحديد نوعية العلاقة، وطبيعة الفرد الذي نبني العلاقة معه ومستواه الثقافي والاقتصادي والاجتماعي، وبعدها نحدد المسافة المطلوبة». ويُلاحظ: «لا يمكن تحديد مسافة واحدة وتعميمها على فئات المجتمع، فالعلاقة مع الزوجة غير العلاقة مع الصديق، ولا تشبه مطلقاً العلاقة مع رَبّ العمل أو المثقف أو السياسي أو غيرهم. من هنا كانت إدارة المسافات فناً يجب أن ندرس أبعاده، مع احترام خصوصية كل فرد في المجتمع».

مشهديّة اختلاف الرؤى
في حديثها عن فن إيجاد المسافة في العلاقات الاجتماعية، تشير الرئيسة الأولى لـ«كرسي اليونسكو للمرأة والإعلام» في دول الخليج، ريم عبيدات، إلى أن: «هذا الموضوع يتسم بمشهديّة خاصة جديرة بكثير من اختلاف الرؤى. ذلك أن العلاقات التي تحيط بنا كبشر هي العالم الأول الذي يرسمنا، حيث تتبدّى عبر رحلتنا الإنسانية المخاضات المتخذة من مُعادلة هضاب وقلاع وجبال معتركاتها عبر الحياة وبها، وجغرافية الكائنات وكيميائيتها التي تشكل مجتمعاتنا فيها أدواراً جوهرية في الكفاءة والنوعية والجمال والسعادة». وتضيف: «الإنسان يَسْعَد بالآخر وعبره، ويمضي بالآخر وعبره، والسؤال الذي يشخص دوماً في أدبيات العلاقة بين الذاتي والاجتماعي، هو البداية والنهاية للمراحل المجتازة نحو الذات ومنها إلى الآخَر».