همايون كبير، زميل من بنغلاديش تزاملت معه في جامعة أدنبره عام 1972، وجمعنا السكن الجامعي بمثل ما جمعتنا محبة الكتب، اقتناء وقراءة، وتحقق ذلك حين طرق باب غرفتي ليبلغني عن هاتف جاء لي، وكان السكن يؤمن هاتفاً واحداً لكل طابق ويشترك كل 36 طالباً في هاتف واحد، وتعود الجميع أن يرد أحدهم على الهاتف ثم يجري ليطرق باب من كان الهاتف له، ولهذا فإن أصحاب الغرف القريبة من مكان الهاتف يتعرضون لهذا الصوت الذي يظل يرن حتى يرد عليه أحدهم أو يصادف واحداً ماراً، ولكن المتبع هو احترام نظام الرد ولم يحدث أن تجاهله أحد.
وفي حال همايون فإنه حين لمح رفوف الكتب حين أطل على الباب في غرفتي، حفظ المنظر في ذهنه وعاد لي بعد يوم ليطرق بابي ويفاتحني بمحبته للكتب، مع أن تخصصه علمي، وطلب مني السماح له بإلقاء نظرة عليها، وكان يستعرض كتبي ويردد: قرأت هذا... وهذا لا لم يمر عليّ من قبل... وهذا كنت أتمنى أن أقرأه ولم أجده، وكل الكتب كانت باللغة الإنجليزية، شعراً ورواية ونقداً وفلسفة، ولذا ظل يستعير مني ما رغب به، وكان يتميز بالسرعة في القراءة والدقة في مواعيده، وغزارة ذهنه في النقاش مع خفة دمه واحترامه للوقت، فلم أشعر قط بأي إثقال منه. ثم علمت منه أنه يكتب الشعر فسألته عن الشعر في بلده، فرد عليّ رداً ذكياً وقال: لو استبعدنا طاغور من الذاكرة لقلت لك إن لدينا شعراء عظاماً، ولكن إن حضر اسم طاغور تلاشت كل الأسماء، وهنا ترجمت له بيت النابغة (كأنك شمس والملوك كواكب / إذا ظهرت لم يبد منهن كوكب) وما عيبه إلا أنه بيت في المديح وليس بيتاً في النظرية.
كان همايون فخوراً بطاغور الذي يراه بنغلاديشياً وليس هندياً كما يشيع عالمياً لأنه من أرض بنغلاديش، وليس من أرض الهند، حسب التقسيم السياسي، وما زلت أتذكر صاحبي هذا، ولم تستمر صلتنا ببعض، لأنه غاب ولم نعد نعلم عنه شيئاً بعد سنتنا الأولى، ولم يودعنا ولم يبلغنا عن نية المغادرة، ولكنه ترك لي ذاكرة عن ذهن متقد علماً وجمالاً.