مكثتُ في كوخ خيزران صغير في قرية نائية شمال الفلبين قبل ثماني سنوات، وكان ذلك لدواعي التعرُّف إلى ثقافة الآخر الذي أنوي الخوض في شأنه كتابة. طرق بابي ذات صباح باكر سائق السيارة ودليلي في الرِّحلة، يُخبرني أن أهالي المنطقة لا يلتمسون ارتياحاً لبقائي بينهم، وأن مكوثي المؤقت يدفع بالرَّيبة إلى نفوسهم. أزعجني حديثه وأكَّد لي ما لمسته في الوجوه المتجهِّمة حولي مُذ وصولي، رغم حرصي على عدم إزعاج الآخرين طيلة فترة بقائي بينهم. كنت أرصدهم عن بُعد، دونما تدخل في شؤونهم اليومية كيلا أتسبَّب بإزعاجهم، وكنتُ أمارس حيائي الذي دأبتُ عليه إزاء الجارات في الكويت، وقتما نلتقي صدفة في الشارع. أُطرق ولا أنبس بكلمة، أو أكتفي بتحية تشبه الهَمس: الله بالخير أُم أحمد. الأمر ذاته يتكرَّر مع عجائز القرية العبوسات. أُطرق وأنزوي بعيداً وقتما يخرجن لنشر الغسيل أو إطعام دجاجاتهنَّ أو قطف الثِّمار. لكن ما ظننته احتراماً مألوفاً ألَّبَ النَّاس ضد وجودي على نحو لم أفهمه.
قال لي دليلي، عند باب الكوخ، قبل أن يمضي: ألا تستطيع أن تبتسم وتقول صباح الخير، سيدي؟ قطَّبتُ حاجبَي، «بس؟»، قلتُ في نفسي في حين تركني الرَّجل أفكِّرُ في ما سوف أبدأ به صباح الغد. وقفتُ عند بابي صباحاً، أضمُّ ساعِدَي إلى صدري أوزعُ ابتساماتٍ مجانيةٍ على المارَّة، صباح الخير.
لصباح الخير المشفوعة بالابتسامة تأثير السِّحر على الجميع، وبالتالي عليَّ، كما لو أنني ألقيتُ بتعويذةٍ أبطلَت لعنة النفور من ذاك الغريب، ما دفعني لتمديد فترة إقامتي. ما عدتُ ألمح وجهاً عابساً بين وجوه العجائز، صرن ودودات على نحوٍ يدعو إلى الحرج. يصلني الطعام ثلاث مرَّات في اليوم وتُغسل ثيابي دونما مُقابل. أصحو باكراً على ثلاث طَرقات ناعمة على بابي الخشبي، وأجد على عتبته أواني الطَّعام ولا أدري من الذي يُحسن ضيافتي من دون الكشف عن نفسِه. لم يكن من بين الطَّعامِ ما يؤكل، وفقاً لذائقتي، عدا أفضل الأسوأ؛ الموز المشوي الذي لم أستسغه، ولكنني ورَّطتُ نفسي بالتهامِه على سبيل المجاملة، حتى تلبَّكت معدتي، ما دفع الطَّارق الصَّباحي لأن يُكثر منه ظنّاً بأني أحببته. صارَ بيني وبين النَّاس «موز وملح»، وأحاديث ودودة وزاد من الذكريات أحنُّ له بين وقت وآخر، وسمعت قصصاً وتعرَّفت إلى شخصيات تصلح واحدتها لنواة رواية.
بالعودة اليوم إلى تلك التجربة بكل ما اكتسبته منها حياة وكتابة، أجدني ممتناً للوم الدَّليل على غرابة سلوكي الذي قصدت به غير ما فُهِم. وأنني سافرت بدافع الانفتاح على ثقافة الآخر كي أفهمه في حين كنت أصدر ثقافتي وأتعامل مع الناس وفق اشتراطاتها، بصرف النظر عن ظروف المكان ونوعية النَّاس واختلاف ثقافتهم، كما لو أن ثقافتي هي المقياس الذي يجب أن يكون عليه الآخر. ثقافة «أم أحمد» مقبولة ومحبَّبة في سياق بيئتها، ولكن للآخر ثقافته التي لا تتعارض مع قيَمك، فالآخر ليس أنت.
في يومِ رحيلي إلى المطار عائداً إلى الكويت، وجدتُ عجائز القرية وشبابها قد استأجروا سيارة «فان» يصطحبونني بها من أجل توديعي. وعند رصيف المطار عرَّفني الدَّليل إلى «تيتا سارا» صاحبة فكرة استئجار السيارة، وقد بكت وهي تودعني وتُناولني هدية مُغلَّفة رافضة أن تأخذ أي مُقابل نظير حُسن ضيافتها.
فتحتُ دفتري في الطيارة أُدوِّن مشاهد اليوم الأخير. تذكرتُ هدية «تيتا سارا»، وأخرجتُها من خزانة الحقائب فوق رأسي. أزلتُ تغليفها الورقي لأجد أيضاً الموز المشوي!