في الرابعة من عمرها، كانت المطربة التونسية غالية بنعلي، تحفظ أغنيات «أم كلثوم» وتُغنيها على الرغم من نشأتها في بلجيكا، وأنها بدأت مشوارها أمام جمهور غربي، إلا أنها أصرت على الحفاظ على هويتها العربية، سعيدة بممارسة حريتها، وهي تُحلق خارج السِّرب. توجّه غالية، في حفلها المقبل على مسرح «دبي أوبرا» في 16 فبراير الجاري، تحيّة إلى «أم كلثوم» المطربة، التي تختصر طفولتها كما تختصر ثقافتنا العربية المعاصرة. إذ اشتهرت غالية بأدائها مختلف الأنواع الغنائية والألحان. تمتزج أنغامها بألحان مستوحاة من الفنانين العرب ومنطقة الشرق الأوسط، بمن فيهم «أم كلثوم».

لُقّبت غالية بسفيرة الغناء العربي في أوروبا، أغانيها ذات أسلوب متميّز، فصوتها قوي وعذب. هي مطربة، كاتبة، ملحنة. لقّبت بـ«بنت الريح» وحفيدة «أم كلثوم»، أحيَت غالية حفلات في مختلف بلدان العالم، وصُنفت ضمن أكثر 10 فنانين تأثيراً أثناء العروض الحية في 2013، حسب استفتاء «نيويورك تايمز». تميّزت بمزج أنماط مختلفة من الموسيقى، خلال تواصلها مع ثقافات مختلفة، بالنسبة إليها كان إحياء التراث وفي الوقت ذاته تأصيل الحداثة في فنها، الناتج الطبيعي لـمَـا تم مزجه من التبايُن والاختلاف الذي عاصرته في مسيرة حياتها الشخصية.

• تُكرّمين بصوتك «أم كلثوم» في حفلك المقبل في «دبي أوبرا».. فعلاقتك بـ«الست» قد يراها البعض رُوحيّة أكثر منها موسيقية. ما الذي يستحضره فيك صوتها؟
علاقتي بالسيدة «أم كلثوم» علاقة روحية أكثر من أي شيء آخر، لأنني مرتبطة بها منذ صغري. فأمي وأبي كانا يستمعان كثيراً لها، وحين نسمع صوتها لم نكن نهتم بالأمور المادية المرتبطة بالفرق بين الرجل والمرأة، لأنه مختلف عن الاثنين، وهذا ما يستحضره بي صوتها. فأنا أحب الحكايات التي تدور حول «أم كلثوم»، والتي سمعتها من أشخاص عاصروها، أو قرأتها في الكتب عنها، أو سمعتها في لقاءات معها. كنتُ أشعر بها وكأنها جدّتي أو أحد أفراد العائلة، وبأنني أعرفها. لا يمكن أن أوفيها حقّها مهما أقول. أحب (فكرة) «أم كلثوم»، فحين كانت تغني تتوقف الحياة بُرْهةً لسَمَاع صوتها، لأنها كانت تعمل على إيصال الفكرة من خلال صوتها الطربي إلى قلب ورُوح كل فرد منّا، وكل من يحبّها.

• كيف تمّ التحضير لحفلك في «دبي أوبرا»؟ وكيف تم اختيار الأغنيات؟
الفكرة من هذا الحفل كانت في أن نُقدّم أمسية حميمية مع الموسيقيين، وسمّيتهم «رفاق الدرب»، لأنهم أصدقاء قبل أن يكونوا موسيقيين، كلٌّ منهم لديه فكره الخاص، وهذا يولّد طاقة جميلة جداً. والموسيقيّون الذين اخترتهم هم: عازف «الكمان» المصري أيمن عصفور. وعازف «الكمان» التونسي زياد زواري. فكلٌّ منهما لديه أسلوبه في العزف، مع أنها آلة «الكمان» نفسها. فزياد غربي أكثر، وأيمن شرقي أكثر. وعازف «القانون» العراقي الشاب علي شاكر، الذي يعيش في بلجيكا، وأسلوبه بين الثقافة الأوروبية مثل المقدونيّين والإسبان. وعازف الـ«كونترباص» البلجيكي، الذي يُقدر ويحب موسيقانا التي درسها جيداً. فهذه الفرقة ستأتي معي إلى «دبي أوبرا»، وقد ركزت على الأغاني التي أحبها بكل جوارحي لأغنّيها، فلم أرغب في حفظ أغانٍ لا أعرفها جيداً لأن أغنية «أم كلثوم» لا تحفظها لتُعيد الكلام وحسب، بل يجب أن تعيشها سنتين أو أربع سنوات. وطبعاً أصررتُ على «الأطلال»، لأنها في آخر الحفل خُلاصة محبّتي لـ«أم كلثوم» وكل ما تُمثله. هي محبّتي لأمي وأبي وطفولتي، ومحبّتي للعالم العربي الذي أنْجَب مطربة مثلها، التي اختزلت ثقافتنا العربية القديمة المحسوسة أكثر من تلك التي نعيشها اليوم.


الهوية الفنية
• نشأتِ في أسرة بعيدة عن الفن. كيف كان هذا الاتجاه؟ وكيف تشكلت هويتك الفنية؟
الفن بالنسبة إليّ لا يختلف كثيراً عن الحياة اليومية. كنت أسمع الأغاني، أشاهد الأفلام، أرسم، أطبخ، أحكي، وهذا كله فنّ. ويبدو لي أن طريقي الفني تَشكّل منذ تلك المرحلة من حياتنا في دارنا. ولم تكن البنات في تلك الأيام يخرجن من المنزل كثيراً، ولم تكن ثمة أمور يفعلنها خارج المنزل، لذا لا بدّ أن طريقي الفني تشكل من منطلق التفكير فيما يمكن فعله في يومك الطويل، وكيف يمكنك أن تُبدعي وتتفنّني في كل الأمور التي تفعلينها يومياً. وحين سافرت إلى بلجيكا فكرت في العودة للإبداع في حياتي وضمن الإمكانات المتاحة لي. والفن في الواقع وليد الحاجة إلى الحياة والإبداع، ولأن تتفكّر في كيف تأتي بشيء جديد كل يوم. ويبدو لي أن هويتي الفنية قريبة من حياتي اليومية، فليس هناك فرق بين غالية المغنية والممثلة، الكاتبة، الراقصة، الحَكّاءة، الأم، الطباخة والخياطة.. فهذه أكثر الأمور التي شكلت هويتي الفنية.

• ما أولى ذكرياتك المرتبطة بالفن والغناء؟
الفن مرتبط بالحياة اليومية، بفرحة «اللمّة» واللقاء، وكنت دائماً أجلس مع أمي نُغني ونحكي أثناء عملنا في البيت. ولكن ذكرياتي المرتبطة بالفن تعود لسبب ما إلى أغنية «الأطلال». كنت أرتدي فستان أمي، وكانت الفساتين القصيرة رائجة في السبعينات، كنت صغيرة جداً، وربما لا أتعدّى الرابعة من عمري. كنت أرتدي فستانها وأضع «مصطبة» أعتليها وكأنني على المسرح، وأحمل بيدي منديلاً، وأغني «هل رأى الحب سُكارَى»، وكانت أمي تضحك وتُصحح أخطائي، وكانت توجّهني فنياً من ناحيتي الصوت والموسيقى. أتذكر أيضاً مع «الأطلال»، أنني كنت أجلس وأستمع لـ«الأسطوانة» وأدُوخ مع دورانها.

نقل الإحساس
• كيف تصفين علاقتك بالجمهور العالمي؟
حين بدأت الغناء بأوروبا وجدت أن الجمهور الغربي راغباً في التعرّف إلى ثقافتي أكثر، ولم أكن أرغب في ترجمة الأغنيات إلى الفرنسية أو الإنجليزية، من منطلق إدراكي أن الترجمة ناقصة دائماً، وكنت أقول لهم إن أغنياتنا تُنْقَل بالإحساس. طبعاً كان يهمني أن تكون الكلمات صحيحة بالنسبة إليّ، لأتمكن من التفاعل معها ونقلها بالشكل الصحيح. تعلمت أن أتواصل مع نفسي أكثر لأتمكن من نقل الإحساس واللحن إلى الآخرين قبل الكلمة.

• ماذا عن علاقتك بالجمهور العربي، لاسيما أنك حافظت على هويتك الطربية العربية حتى في ألحانك الجديدة؟
تعرّفت إلى الجمهور العربي بدءاً من عام 2012. بَنيتُ معهم علاقة حميمة وحُبّاً ومحبّة أصفها بالوَصل. فالحفلات مع الجمهور العربي هي بالفعل كما ندعوها «حضرة» وفيها لمّة. وهذه «اللمة» فيها نوع من السحر الخاص لم أجده مع الجمهور الغربي. فالجمهور العربي مرتبط بقلبي بشكل خاص، والجمهور الغربي قريب من قلبي وعقلي، والفرق بينهما الرّوح. طبعاً حافظت على هويتي العربية بألحاني الجديدة حتى وأنا في أوروبا، وحتى في عملي مع موسيقيين غربيين، استمررتُ في الغناء بطريقتي العربية من دون تشويه في الكلام أو الإيقاع.

الكلمة واللحن
• تربطك علاقة وثيقة بالكلمة والأغنية. ما الأغنية التي تشدّك؟
الموسيقى بالنسبة إليّ تبدأ من القصيدة، ودائماً أقول: «إن أول ملحن للقصيدة هو الشخص الذي يكتبها». فالقصيدة فيها إيقاعها ونغمتها وإحساسها، وموسيقاها الخاصة. فالنص مُهم قبل كل شيء بالنسبة إليّ، وفي رأيي الملحن يجب أن يخدم النص وليس العكس. أحب مثلاً الـ«أكابيلا» (أي الصوت الملحَّن من دون عزف)، وأحَبّ الأصوات بالنسبة إليّ صوت المُقْرئ وهو يُجوّد ويتلو القرآن. أما في مجال الفن فنجد مع «أم كلثوم» مثلاً أنّ الصوت يفرض نفسه، ويخدم الموسيقى والكلمات والحضور. والأغنية التي تشدّني هي التي يشدني كلامها، أما الموسيقى التي تشدني فهي التي تحكي حكاية من دون الحاجة إلى قصيدة.

• أنت أيضاً مؤلفة وملحنة. كيف تولد الكلمة؟ ومتى يتضح المشهد ويأتي اللحن في خيالك؟
أنا «حَكّاءة» أكثر من كوني ملحنة أو مغنية، راقصة، ممثلة أو رسامة، ويبدو لي أنه من أهم الأشياء قبل الكلمة واللحن، الحاجة إلى أن تعبّر عن شيء تريد أن تقوله أو معنى ترغب في إيصاله. وقد أقرأ قصيدة أشعر بحاجة إلى التعبير عنها باللحن لأنني لا أحفظ الكلام من غير لحن، فالكلمة يمكن أن تأتيني في أي مناسبة، وأهم الكلمات تأتيني حينما أكون مُسافرة، أو أثناء أدائي عملي اليومي في المنزل، ربما وأنا أنظف، أغسل، أطبخ، أو بينما أنا أحدّث أولادي، تأتيني الكلمة بالفطرة من دون تفكير. فالموسيقى والكتابة والرقص بالنسبة إليّ جزءٌ من حياتي اليومية.

أغنية عالمية
• على الرغم من تصنيفك ضمن خانة «الأغنية العالمية»، إلا أنك أقرب إلى «الأغنية الثقافية». كيف تفسرين ذلك؟
صنّفوني ضمن «الأغنية العالمية» في بداياتي، ولكنني لا أعرف تحديداً كيف أصنّف أسلوبي، ويمكن أن تكون أغنياتي من فئة «الأغنية الحياتية»، أو «أغنية كل يوم»، ولكن يمكن أن نتفق على تصنيف «الأغنية الثقافية»، من ناحية أن فيها معرفة بالثقافات الأخرى، وفيها الإصرار على هوية الثقافة العربية وعلى تسامحها مع الثقافات الأخرى. ولكن لا أودّ أن تكون ثقافية بشكل كبير فتعجز عن الوصول إلى الناس. فموسيقاي تتوجّه إلى كل الناس وتلمس كل الناس.

• في حفلاتك نلاحظ حماسة الموسيقيين الغربيين لألحاننا الشرقية التي يعزفونها في أغنياتك. ما السبب في رأيك؟
اللحن الغربي ليس شاعرياً، والموسيقيين الغربيين الذين تعاملت معهم يحبون أن يتعلموا أكثر عن موسيقانا وثقافتنا، وهم مبهورون بموسيقانا ومقاماتنا وإحساسنا، لاسيّما أنهم ليسوا على تواصُل بالروح والإحساس، بل موسيقاهم تتوجه أكثر إلى العقل.

أمومة
تقول الفنانة غالية بنعلي، عن تجربتها مع الأمومة: «كانت الأمومة بالنسبة إليّ مُفيدة جداً، زادتني ثقةً بنفسي، وجعلتني أكبر وأفهم العالم أكثر. والصلة التي تربطني بابني وابنتي، هي أن أتعلم عن طريقهما كَوَامِن العالم المتغيّر الذي نعيشه، وكفنانة تجعلني الأمومة أكثر تواضعاً وواقعية. أحب بعد انتهاء أي عمل موسيقي الرجوع إلى بيتي والعودة لحياتي العادية، أمّاً وربّة بيت، التي هي الأصل، وغالية الفنانة هي أحد وجُوهَها».

أمي وأبي
عن الذي تعلمته من والديها، تقول غالية: أمي (نجاة) علمتني أن أسمع وأتذوّق.. علمتني أن أفرح، أرقص، أغني، وكل شيء مرتبط بالبهجة وفرحة الحياة والمزاج وخفّة الروح. علمتني الوصل مع القلب. والدي (علي) علمني كيف أفكر وأحلّل وأتأمل وأتعلم، وأن أكون صادقة، وعلمني الجدّ، والموسيقى الجدية، والانغماس والتفاني.. فوالدي، رحمه الله، كان المزج بين العلم والروح، وأمي كانت الحب والقلب والفطرة.