تقاعد العم صالح، بعد أربعين عاماً من عمل واحد ظل عليه من دون تغيير، حتى المكتب القديم بقي على حاله والمبنى وطريقة العمل، وربما وجوه المراجعين. مما جعله يفقد كل شيء، المكان والوجوه ورائحة الورق وإبريق الشاي وحكايات الفراش الذي صحبه معظم تلك المدة، ونكد المدير الذي تعود عليه ولم يستطع تعديله على الرغم من نصائحه المستمرة له، ليعدل من لغته في الرد على الناس حين يسألونه عن أي أمر يخص معاملاتهم.
وأحس العم صالح بأن البيت ضاق عليه وكأنه في زنزانة، وهو البيت الذي كان يستقبل تعبه ويريح قلقه، وها هو تحول إلى سجن لا يسمع فيه صوت المدير كاسر الهدوء، ولا فنجان الشاي الذي يضعه الفراش مخاتلة على طرف المكتب، ويشير بيده إلى مكان الكأس كي لا يندلق على الورق.
في اليوم الثالث من توقيت حالته هذه قرر أن يسافر إلى المدينة المنورة، وأخذ حافلة النقل الجماعي، لكي تطول مدة السفر ويسلي نظره بالفرجة على القرى والمزارع المتناثرة على الطريق بين القصيم والمدينة، ولكنه لاحظ أن السائق خرج بسيارته عن الشارع الرئيس في عنيزة واسمه طريق المدينة، غير أنه حدث نفسه بأن السائق ربما يعرف طريقاً أسرع وأخف زحمة، وبعد ساعات من مسار الرحلة اكتشف أنه قد غلط وركب حافلة تأخذه لمدينة عرعر شمالاً، وأحس بأنه دخل في مغامرة أفرحت خياله فهو لا يعرف عرعر ولا يعرف أحداً فيها، ولا يدري أين يسكن وكيف يتنقل هناك ولا ولا ولا... ولكنه قال: «إيش ورايا؟...». وأطلق ضحكة مدوية جعلت راكباً آخر يقترب منه ويسأله عن حاله، وبدأت من هنا رحلة جعلته يمدد إقامته في عرعر لعشرة أيام وقد كانت نيته بثلاثة.
في عرعر تعرف إلى الناس والحياة وأنس بالبشر، وهنا قرر العم صالح أن يكرر مثل هذه المغامرة مرة كل شهر، وصار يذهب إلى مجمع الحافلات ويشتري تذكرة مع أول حافلة يجدها ويسافر لأي مدينة شمالاً أو شرقاً أو غرباً، وفي سنة واحدة زار عشر مدن لم تكن تخطر له في بال، وظل على هذه الحال سعيداً بتقاعده وطليقاً من كل سجونه، وحصل على كم هائل من الحكايات والقصص والطرائف، يتزين بها في مجالسه حين يروي للناس ما مر ويمر عليه، وصارت وعثاء السفر متعة حياته وبهجة تقاعده. أحس بأنه كان سجيناً لمدة أربعين عاماً فتحرر.