أمام مكتبي، إلى اليسار قليلاً، تتكئ صورة قديمة إلى الجدار، إطارها السُّفلي يلامس الأرض. صورة بالحجم الطبيعي لطفل في عامه الأول يُمسك بقلم، كما لو أنه يجلسُ أمامي يحملق فيَّ وأنا أكتب.
لا وجه للشبه بيني وبين الصورة سوى الدهشة المرسومة في كلا الوجهين، والقلمين اللذين نمسك بهما بين أصابعنا. تفصل بيني وبين الصورة مسافة مترين، وزمن يقارب 37 سنة. أضيِّق عيني أحدِّق في وجه الصغير في الصورة أُحاول أن أتعرَّف إليه، كما لو أنني لم أكنه ذات يومٍ بعيد. نبَّهني الصَّغير إلى سنوات كثيرة مضت، وأنا أقتربُ لاهثاً من الـ40.
في سنوات الطفولة والمراهقة تلهفتُ لإدراك الـ20. كنت أضيف سنة إذا ما سألني أحدهم عن عمري، أو ربما سنتين، واليوم أشعر بغصَّة تجاه كل ما فاتني واستعجلت تجاوزه، وأتمنى لو أن باستطاعتي محوَ سنوات كثيرة، بكل أحداثها وخياراتها الجبرية التي اتخذها الآخرون نيابة عني.
تركت مكتبي، والطفل بملامح الدهشة يتبعني بعينيه. فتحتُ خزانتي، ورحتُ أشاكس الأمس، وبين بانوراما الألبومات القديمة وجدتُ صورة كُتب على ظهرها ثانية/‏‏ثالث. صورة جماعية لي ولزملائي في الفصل، حين كنا في المرحلة الابتدائية. أخذت أتفحص الوجوه، أُردد أسماءها من دون أن أغفل عن واحدٍ منها، 31 تلميذاً، لكل منهم اسم يقترن بحكاية.
وعلى سبيل الإيغال بمشاكسة الأمس، تحت وطأة حنينٍ أبدي، واختبار مشاعر أُناس الأمس تجاه أمسِهِم، قررت في يوم جمعة أن أزور مسجدي القديم. تربَّعت على الأرض أسند ظهري إلى عمودٍ يألف دفء ظهري، ويعرفني أكثر من خطيب الجمعة، غير بعيدٍ عن الباب الذي يستقبل المصلين.
هذا ناصر بصحبة والده، بالمشية نفسها، كما لو كانت رؤيتي لهما، في المسجد نفسه، قبل أسبوع واحد فقط. يدخل يوسف بصحبة ولدين يُشبهانه صغيراً، يصلي تحية المسجد، والولدان يقلدان حركاته. وعند الباب، هناك، ينزع محمد نعليه، يتبعه عبد الرحمن وإبراهيم. كلهم هنا. الأمس عالقٌ في هذا المكان، وذكريات المكان عالقة في نفسي.
كنت أحتفظ بأرقام هواتف بعضهم، تبادلناها قبل سنوات على سبيل المجاملة، حين تجمعنا صدفة في مكان ما، من دون أن يفكر أحدنا في الاتصال بالآخر. ولكن، في تلك الجمعة، فور عودتي للبيت، أرسلتُ الصورة الجماعية إلى هواتف زملاء الفصل القديم، مُرتادي المسجد إياه، كما لو أني أتخفَّف من حملٍ قديمٍ أتقاسمه مع غيري. هاتفني البعض، واكتفى البعض الآخر برسالة نصية. كنا نتوق إلى الأمس، عالقين في اليوم، خائفين من غد. كنا نشترك بأشياء كثيرة، ولكن أيّاً منا لم يكن يشبهنا في الأمس.
جلستُ إلى المكتب أنظر إلى الطفل في الصورة. تجاوزت مسافة المترين عمقاً فيما يُقارب عقوداً أربعة، قصيرة بمقياس الحياة، طويلة كالدهر بالنسبة إلى طفلٍ يأبى مغادرتي. فتَّشت في سنوات شهدت حكايات حب وخصومة، مغامرات جيرة وأبناء عمومة، وصداقات كادت تكون حقيقية لولا نهاياتها، وولادة أشخاص وموت آخرين، ودروس مجانية لم أنتبه لها يوماً، وأسفار كثيرة وأُناس أكثر، قليل من تستثمر فيه صديقاً، وكُتب وكتابة.. كل شيءٍ عابر إلا الأخيرة، الكتابة، مانحة تلك التفاصيل فرصة بقاء، أو محوٍ مقصود.
وراء مكتبي، أمسكتُ بقلمي أكتب ما شهدته في تلك الرحلة، على مسافة مترين بيني وبيني، أحلمُ بأن يكون لدي كتاب أودعه ذاتي بكل مكاسبها وتجاربها وخساراتها وتفاهتها قبل أن..