تخيل أن تكون جالساً وحدك في مقهى أو مكتبة عامة، وفجأةً تجد شابة جميلة تتقدم نحو طاولتك وتجلس على المقعد المقابل من دون أن تطلب إذنك، وبعد أن تُلقي عليك التحية تقول: (أود التعرّف). الأمر يبدو سهلاً لدرجة عدم التصديق، أليس كذلك؟ خصوصاً عندما يتوقع الجميع أن يكون الرجل هو المبادر، ولو أخبرت أصدقاءك أن موقفاً كهذا حدث لك لضحكوا عليك قائلين: (خف علينا يا مهند!)، أو لاتّبعوا سياسة (التسليك) وأبدوا عدم استغرابهم لأنك محطم قلوب العذارَى، قبل أن يجلدوك جلداً مبرّحاً في مجموعة «الواتساب» التي لم يضيفوك إليها. لكن فيلم Our Lovers لا يكترث بتصديقك من عدمه، ولا يجاهد ليبدو واقعياً، بل هو أشبه بعالم صغير من الأحلام والصدف السعيدة، وإن كان كذبة فلا يهم ما دامت كذبة جميلة، وأقتبس هنا من الفيلم: (الكذب أكثر إبداعاً وإمتاعاً بكثير من قول الحقيقة. أنا أثق بالأكاذيب، كما قال أحدهم: الكذب دائماً يتحدث عن الحقيقة).

علاقة تعارف

تدور قصة الفيلم الإسباني Our Lovers أو Nuestros Amantes (على نتفليكس) حول علاقة تعارف تنشأ بين كارلوس وإيرين، بعد لقائهما في متجر كتب، حيث يتفقان على الخروج معاً في بضعة مواعيد أخرى بشرط وحيد؛ وهو عدم الوقوع في الحب. الرابط المشترك بين كارلوس وإيرين هو الولع بالكتب، والجروح العاطفية التي ورثاها من شركائهما السابقين، ومع توالي الأحداث يبدآن باكتشاف المزيد عن تفاصيل حياتهما فيما يشبه اللعبة، مع حرصهما على عدم التعلق ببعضهما البعض. من المثير أنه لا يمكن تصنيف العلاقة التي تربط بين بطلي الفيلم، فهي لا تنتمي إلى الصداقة ولا إلى الحب، بل تترنح في تلك المنطقة الحدودية المتنازع عليها من الطرفين، حيث لا قيود ولا وعود، مما يُطيل أمد اللهفة ولذة البدايات، وكما يقول محمود درويش: (لا أريد من الحب غير البداية).

إيجاد قدوة

لفتني في الفيلم ذكر أحد كتّابي المفضلين وهو الشاعر والروائي الأميركي تشارلز بوكوسكي، حيث يعتبره كارلوس قدوته في عالم الكتابة، ويتحدث عنه أمام إيرين بهوس وتبجيل عظيمين، مما جعلني ممتناً، إذ شعرت بأنه يتحدث بلساني، وأمور صغيرة وحميمة كهذه تجعلنا نميل إلى فيلم ما ولو كان عادياً أو سيئاً في نظر النقاد، فهو قبل كل شيء يمثلنا. في أحد المشاهد يتلقّى كارلوس المشورة من أحد أصدقائه، فيخبره أن النساء قد لا يكترثن بك جنسياً، ولا يكتفين بأن تستمع لهن، بل يجب أن يشعرن بأنك مهتم، وإلا فإنهن سيلتهمن روحك. وهنا تحضر روح بوكوسكي مرة أخرى، حيث ذكّرني الحوار بإحدى مقولاته: (ورغم كل شيء كنت أخاف النساء، النساء الطيبات، لأنهن في النهاية سيبحثن عن روحك، ولقد أردت الحفاظ على ما تبقّى مني).

الجميع طيبون

فيلم Our Lovers لا يتسم بالعمق الذي يدفعك للتفكر أو التساؤل، ولا يحتوي على معضلة حقيقية أو ذروة تتأزّم عندها الأحداث، الجميع طيبون في هذه القصة حتى الأشرار أنفسهم، والفيلم أشبه بنزهة على القارب بين أنهار البندقية، حيث التيارات المائية الخفيفة هي التوتر الوحيد في المشهد. قد يذكركم Our Lovers بفيلم Before Sunrise وأجزائه الأخرى، وكل منهما يعتمد على الحوارات اعتماداً أساسياً، إلا أن بعض الحوارات في فيلم Our Lovers جاءت مهندمة ومزخرفة أكثر من اللازم، وكأنها ليست عفوية بل مُعدّة مسبقاً من قبل الشخصيات، لكن بالعودة إلى مقدمة المقال؛ فهذا فيلم لا يهتم بأن يكون واقعياً، ولا يمكنك أن تصفه بأكثر من كلمة واحدة: لطيف.

تذكرة لي ولكم

اقتباسات حوارية من فيلم Our Lovers:
كارلوس: يعتقدون أنك تَذُوبين عشقاً عندما ترينهم يتصرفون بكبرياء، لكن في الحقيقة غريزة الأمومة لديك ترى من خلال التمويه الذي يقومون به.
إيرين: ونحن نرى الطفل الداخلي؟
كارلوس: بالضبط، الطفل الخجول غير الآمن الذي يحاول التغلب على خوفه من الفتيات.
كارلوس: إنه ليس وسيماً.
إيرين: وليس عليه أن يكون كذلك، إنه شاعر. إنه من النوع الذي لا يتوقف حتى تعشقه، وعندما تفعل ذلك فإنه يخاف ويرحل.
كارلوس: هل تعرفين أكثر ما أحبه في النساء؟
إيرين: فاجئني.
كارلوس: عيوبهن.
إيرين: إذاً ستقع في حبي من أول وهلة. هذا هو الفرق بين الحياة الحقيقية والأفلام، في الأفلام الوغد هو وغد. في الحياة الحقيقية الوغد يمكن أن يكون رائعاً أيضاً.