لا أحد يولد بلا أصل وفصل وجذور وعائلة وتاريخ وجينات، بل بعناصر ومكونات تتضافر في جعلنا كما نحن. فما تأثير الجينات في جعل الأشخاص في حالات كآبة، حزن، فرح، انطواء أو حتى جنون؟ وهل من يولدون في عائلات تعاني اضطرابات نفسية معرّضون للإصابة أكثر من سواهم؟ سؤال درسه اختصاصيون وخرجوا بيقين مفاده: «لا تحاولوا أن تفصلوا المستقبل عن التاريخ، والأحفاد عن الأجداد، في المسائل العقلية الذهنية».

اضطرابات

هناك اضطرابات نفسية تأكد الباحثون أنها وراثية، وهي: قصور الانتباه وفرط الحركة، الاكتئاب، الانفصام، والتقلبات المزاجية والانفعالات العاطفية الشديدة، وتُعرف في علم النفس باضطراب «ثنائي القطب». وكلما تقدم العلم في هذا الاتجاه زاد الأمل في إمكانية تسهيل علاج الاضطرابات النفسية التي يعانيها 10% من سكان هذه الأرض، ونحو 20% من الأطفال والمراهقين في العالم.
ترتكز الدراسات على أبحاث واختبارات تجرى على «الحمض النووي»، للأشخاص الذين يتم تشخيصهم بأحد الأمراض العقلية أو السلوكية، يتم التنبؤ من خلالها بالأمراض العقلية، والبحث في إمكانية تطوير علاجات جديدة، استباقية، لهذه الحالات. فيُمكن بالتالي لفتاة في بيتها حالة جنون، أو اضطراب نفسي أو اكتئاب، تشخيص إمكانية تطور حالتها في الاتجاه نفسه في محاولة للحيلولة دون ذلك.

إنذار مبكر

إذا كان أحد أفراد العائلة يعاني اضطراباً عقلياً، فليس معناه أنكم ستعانون حتماً مثله، لكن إمكانية المرور في الحالة نفسها تزيد. لذا، يفترض من الآن وصاعداً إذا شعرتم بأنكم معرضون لاضطراب عقلي أو نفسي، الطلب من طبيبكم مساعدتكم على البحث عن علامات الإنذار المبكرة.
يُفترض بداية أن تتأكدوا من تاريخ صحة الأسرة والأقارب من الدرجتين الأولى والثانية: أب، أم، إخوة وأخوات، عمة، عم، خالة، خال، جد، جدة. ولا ضير أبداً في حمل المعلومات المتوافرة إلى طبيب اختصاصي في الصحة العقلية، وطلب مساعدته على فهم عوامل الخطر والعوامل الوقائية. فمن المهم معرفة أن الجينات هي أجزاء من «الحمض النووي» توجد في كل خليّة، ويتم نقلها من الآباء والأمهات إلى الأطفال. فلا بد من السؤال عن أهمية الاختبار الجيني أو «المسح الجينومي» في تحديد نسبة المخاطر في المستقبل، إذ تشير الأبحاث، حتى هذه اللحظة، إلى أننا سنصل إلى يوم قريب تتيح فيه الأبحاث الوراثية تقديم صورة شبه كاملة، لإمكانية أن يصاب الشخص باضطراب عقلي ما، بناءً على جيناته.

الدماغ المعقد

ليس سراً القول إن الدماغ جهاز مُعقد جداً، فهو يحتوي على أكثر من 100 مليار خلية عصبية، تساوي عدد النجوم في المجرة، وتتصل ببعضها البعض عبر نقاط الاشتباك العصبي. فتكوين الدماغ أشبه بمعجزة، وطريقة عمله مدهشة وصعبة، بالتالي التنبؤ بعوامل الخطر مبكراً وأيضاً بتطور الاضطرابات، لأن العلاقة ليست حتمية دائماً، حتى بين التوأمين اللذين لديهما جينات مُتماثلة، لا يحدث في كثير من الأحيان الاضطراب النفسي ذاته. بالتالي، لا يعمل الدماغ وفق قاعدة (1 + 1 = 2).
هذا كله يدل أن التنبؤ في المسائل العقلية النفسية عبر مراقبة عمل الدماغ ليست سهلة أبداً. لذا، انصبّ البحث على طبيعة الجينات التي تتحكم في الصحة النفسية والعقلية. إذاً، فلتكن التغييرات السلوكية أداة لاكتشاف أي تطور في الصحة النفسية مبكراً، يتبعها «الفحص الجيني» الاستباقي.
كثيرون وكثيرات قد يتململون في أماكنهم، ويبدؤون على قصاصة ورقيّة بتدوين أسماء الأقارب، من أجل استذكار طبيعة صحتهم العقلية والنفسية. لا تخافوا، فالطب يتقدم والوقاية باتت ممكنة، لكن لا ضير من أن تعرفوا أكثر لتتنبّهوا أكثر. ولا ضير في أن تلعبوا أنتم أيضاً دور المراقب في النظر إلى سلوكيات الآخرين. فلنأخذ مثلاً امرأة تضحك كثيراً، تتكلم كثيراً، تتحرك كثيراً، وفجأة ينقلب مزاجها كلياً وتصبح منزوية لا تطيق الكلام مع أحد. هذه المرأة قد تكون تعاني اضطراب «الثنائي القطب»، الذي يتجسد بتغييرات حادة في المزاج. فالأمور النفسية تحتاج إلى فحوص جينية، وإلى رقابة سلوكية ورصد دقيق ومستمر كي لا تتطور إلى مضاعفات وخيمة.

نُصدق أو لا نصدّق؟

هناك من يُصر على القول، إن مسؤولية الأمراض العقلية والنفسية ليست على عاتق علم الوراثة والجينات، بل على الظروف الاجتماعية أيضاً. نُصدّق؟
من المهم معرفة أن الدراسات الجديدة برهنت على أن لوم الظروف القائمة وإلقاء المسؤولية عليها في حدوث الاضطرابات النفسية خطأ كبير، لأن مئات الدراسات الجينية التي درست المتغيرات الوراثية النموذجية، وجدت جذوراً مشتركة بين أغلب أصحاب الأمراض النفسية. ما أكد مرة جديدة أن الأسباب البيولوجية والاستعدادات الوراثية تلعب الدور الأول في ظهور هذه الأمراض، أما الحالات الاجتماعية الطارئة فقد تعززها وتجعلها أقوى، لكنها ليست المسؤولة عن حدوث حالات الاكتئاب والفصام والجنون والانتحار.
إن فهم هذا الموضوع قد يصعُب على الكثيرين باستثناء هذه النصيحة: إذا مرت عائلاتكم بأمراض عقلية ونفسية شديدة، راجعوا الطبيب واهمسوا في أذنيه: «ما رأيك لو تجري لنا فحصاً جينياً»؟