قديماً كانت المسافات والطبيعة الجغرافية لمحيط الإنسان وندرة وسائل النقل المتطورة، هي التحدي الذي يَحُول بينه وبين اكتشاف العالم وتجارب حياتيّة لم يسبق له أن عاشها من قبل، وكانت ترجمة هذا التحدي مئات بل آلاف الكيلومترات ورحلات تمتد إلى أشهر أحياناً. ولكن في عصرنا الحالي وعلى الرغم من التطور الهائل في كل شيء، إلا أن غالبيتنا أصبحوا يجدون صعوبة في استكشاف عالمهم والاستمتاع بتفاصيله، نتيجة حدود تمتد مساحتها سنتيمترات مربّعة، ولكنها حاجز يشبه المحيطات في أثره وينشغل الناس في الإبحار فيه، بينما تمر حياتهم سريعة أمام أعينهم! أتحدث هنا عن شاشات هواتفنا الذكية التي نقلتنا من العيش في حدود بيئتنا المنزلية والعملية والمدن، إلى حدود تطبيقات التراسُل وقنوات «التواصل الاجتماعي»، وتصفح الإنترنت أو الرد على رسائل البريد الإلكتروني، على شاشة يبدأ العالم الحقيقي بعد حافتها. ولو طرحنا في مجالسنا السؤال التقليدي عن الوقت الذي نمضيه على شاشات هواتفنا الذكية؟ سيكون رد الأغلبية أنهم لا يكادون يتركون هواتفهم الذكية، منذ أن يستيقظوا في الصباح حتى يخلدوا للنوم، وهو ما تؤيده دراسات عدة حول عادات استخدام الأجهزة، التي أظهرت أن هذا التعلق يزداد عاماً بعد عام. وأنا لم أذكر هذا من باب سرد سلبيات الأجهزة الذكية، بل لأناقش معكم أهمية أن نوازن بين ضرورتها في عصرنا الرقمي وأسلوب الحياة المعاصرة، وبين أهمية أن نعيش حياتنا الحقيقية التي تنتظرنا عند حافة الشاشة.
وأنا أكتب سطوري هذه، أكاد أسمع أصواتاً تقول إنه لم يعد في العالم متسع لنناقش الوقت الذي نمضيه في العالم الرقمي، لأنه أصبح نسخة افتراضية من حياتنا ولا يمكن الفصل بينهما! ولكنني أدعو لتأمل ما نفوته ونحن نُبحر على الشاشة، فنحن نفوّت الكثير مما لا يمكن استرجاعه: الوقت مع الأسرة والأحباب، مراحل عُمرية لأبنائنا لن تتكرر، الاستمتاع بثمار النجاح المهني الذي تحقق عبر شاشة الهاتف الذكي، ولكننا لم نخصص وقتاً لنستمتع به، مثل الجلوس مع الأهل وخوض أحاديث صباحية أو مسائية معهم عن موضوعات تهمهم، وقد يصل ما نفوته إلى أن نفقد فرصة الحديث مع أحبّاء هُم بيننا اليوم ولكن ليس بالضرورة غداً، فالأعمار بيد الله. لا أدعو هنا لترك أشغالنا التي لا يمكن أن نُنجزها من دون الأجهزة الذكية ولا لهجرها، ولكن مثلما يحتاج الإنسان إلى الوقوف بعد فترة جلوس طويلة، نحتاج إلى أن نعود لعالمنا الواقعي بشكل أكبر ومرات عدة في اليوم، فهو لا يبعد قارّات أو كيلومترات بل يقع مباشرة على مسافة نظرة بعيداً عن الشاشة، وبدلاً من الانشغال طوال الوقت بتصوير اللحظات، فلنُقرّر أن نستمتع بهذه اللحظات بأكبر قدر من حواسنا الخمس، قبل أن نقرر أن نختصر تجربتنا في صورة. وسائل «التواصل الاجتماعي» وغيرها من المنصات وسيلة لتوثيق لحظات لا تُنسى ومشاركتها مع الآخرين، ولكن يجب ألا نحولها إلى سجن يحبسنا عمّا لا يُعوّض. فهل أنتم مستعدون للإبحار بنظرة عين واكتشاف ما بعد حافة المتحرك من جديد؟