كثيراً ما ترد إليّ تعليقات من القراء حول المحلية في الرواية، إذ يرى البعض أن الإيغال في المحلية من شأنه أن يعرقل انتشار العمل خارج محيطه، رغم أننا نقرأ الآخر مهما بدا مختلفاً، ولا نرى فيه غضاضة مهما أوغل في محليته التي لا تشبهنا، بل إن الاطلاع على ثقافة المختلف هي جزء من شغف القارئ للتعرُّف إلى العالم من حوله، وبالتالي التعرُّف إلى نفسه والمكان الذي يقف فيه، فالإنسان واحد في جوهره، تتجلَّى صورته في كل ثقافة مهما بدت مختلفة، وهذا ما يجعلنا نرى أنفسنا، ونتعرَّف إليها أكثر، من خلال الآخر المغاير ما دام التعرُّف إليه يمنح المتعة والمعرفة.
     إن ما يدفعك لتقبُّل الأدب الياباني، مثلًا، وبيئته المغايرة إذا ما جاء بطل رواية يرتدي الكيمونو ويأكل القريدس النِّيئ ويشرب السَّاكي ويمشي في تلال القيقب تحت ندف الثَّلج وهو يفكر في الانتحار، هو ما يجعل القارئ الياباني، إن وُجدت ترجمة، يقرأ رواية خليجية لبطلٍ يرتدي الدِّشداشة والغترة والعقال ويأكل المندي ويشرب القهوة المرَّة ويمشي في الشارع تحت سياط حرارة تتجاوز الخمسين درجة مئوية ويفكر في الانتحار. الثقافة المحلية قد تكون أمراً ثانويّاً مقابل أهمية الموضوع الذي يجيء في سياق تلك الثقافة، إذ إن الهم الإنساني مُشترك مهما اختلف في التفاصيل.      أقول ذلك للقارئ القلق إزاء تلقي الآخر للنتاج الروائي المحلي، والذي يلومني في كثير من الأحيان على تمسكي بمحليَّتي. ليس بالضرورة أن أشبه الآخر ليستوعب كتابتي بالصورة التي أقدمها، فالقارئ دائماً يوجِد له مثالاً يشبهه فيما يقرأ، مهما بدا مختلفاً حتى في التفاصيل المحلية بالغة الخصوصية. هذه قناعتي، أن أكتب من دون أن أولي اهتماماً كبيراً بمراعاة القارئ. لأني أؤمن بأنه، في أي مكان، قادر دائماً أن يوجِد له مثالاً بديلاً يفهمه، فالهجين الكويتي الفلبيني في رواية «ساق البامبو»، يمكن أن يكون عربيّاً أميركيّاً في أميركا، أو تركيّاً أرمنيّاً في تركيا. والتنافر الطائفي الذي جاء في «فئران أمي حصة»، في شقَّيه السُّني والشيعي الذي ترى أنه لا يلامس القارئ في بلدان تخلو من طائفة معينة، لا يعني أن المتلقي لن يوجِد له مثالاً قريباً، فما يجري في تربية الأبناء على أُسس طائفية متطرِّفة لدينا قد يقابله مثالُ شبيه على أُسس دينية؛ بين المسلمين والأقباط في مصر، أو المسلمين والهندوس في الهند، أو على مستوى عرقي بين العرب والأمازيغ في شمال أفريقيا.      الأمثلة كثيرة ليس على مستوى القضايا وحسب، بل حتى في تفاصيل الحياة اليومية التي تبدو موغلة في محليتها، لا بد أن يوجِد لها القارئ بديلاً يشبهه، فالقارئ المصري، مثلاً، حينما يتوقف في رواية «فئران أمي حصة» عند علاقة طفل بثنائي درامي شهير في الكويت «محظوظة ومبروكة»، غالباً ما سيضع نفسه في مكان البطل ويوجد له بديلاً يفهمه في الدراما المصرية «بكيزة وزغلول»، على سبيل المثال، أو «لوريل وهاردي» للمتلقي الأميركي. أتصور أن ما يمنح الأدب قيمته هو كونه يشبه ذاته وبيئته، مهما بدا غارقاً في المحلية، فغالبية أيقونات الأدب التي احتلت مكانةً على مستوى العالم إنما كانت انطلاقتها من محيطها. ومن أكثر مشكلات الرواية العربية هو اهتمام الروائي العربي بذائقة المتلقي الأجنبي، طمعاً في الترجمة، حتى بتنا نقرأ روايات عربية بأحداث وشخوص لا تشبه إلا الصورة التي تغازل الغرب، والتي يظهر عليها العرب في أفلام هوليوود.