بين الغناء والإنشاد الديني علاقة سرمدية، وعند البحث في أصول الغناء العربي لا نجد أمامنا عادةً، غير أسماء تحولت من «الكتاتيب» إلى عالم الطرب، إذ مثلت الفنون الدينية كالإنشاد والتواشيح خزانة حفظت التراث الغنائي لتجده الأجيال اللاحقة غضّاً طريّاً قابلاً للاستفادة منه، والتأسيس عليه في فضاء الكلمة المُمَوسَقة، ذلك أن الفن الديني بحامله الصوفي قد اعتبر الغناء من رقة الروح وجمال النفس ورهافة الإحساس.

تقول الشواهد، إن الغناء الطربي والإنشاد الديني يعملان ويتفاعلان في منطقة واحدة في النفس الإنسانية هي برَاح الوجدان، حيث لا يستوي التحليق بأفق مفتوح في فضاء النشوة الروحية في كليهما، بل يتعداها ليصل إلى المعنى والمضمون حيث الفطرة تيمم قواربها شواطئ الحب. فيتحرر المستمع من قيود التقليد والروتين، وتفك اللغة أسرها الحرفي.

مجدد الفن

في مقام ذكر الانتقال من الإنشاد إلى الغناء، يطل المطرب المصري عبده الحامولي، كألمع من تألق في سماء الحقلين، فهو الفنان المجدد لفن الأغنية العربية في القرن الـ19، الذي شرب من ينابيع القرآن وتجويده، ومن إنشاد التسابيح والابتهالات الدينية التي كان لها عظيم الأثر في صقل موهبته، مما أكسبه حساً فنياً راقياً في اختيار كلمات أغانيه. تلقّى الحامولي أصول الغناء على يد شاكر أفندي الحلبي، الذي تخصص في الأدوار والموشحات، وقد امتد تأثير الحامولي القوي إلى مطربي العقدين الأولين من القرن العشرين، مثل صالح عبد الحي ويوسف المنيلاوي وعبد الحي موسى.

بسحر العين

من النماذج التي ارتحلت من الإنشاد الديني إلى الغناء الطربي، الشيخ سلامة حجازي (1852-1917)، الذي يُعتبر من رواد النهضة العربية الفنية، حيث تميّز بإبداعه الغنائي المسرحي، وتبدأ سيرة الشيخ سلامة منذ يفاعته، حيث حفظ القرآن وجوّده وتعلم فنون الإنشاد وهو في الـ11 من عمره، ومن بعد ذلك ولج إلى عالم الغناء حينما تتلمذ على يد الشيخ خليل محرم، وعند ذلك ألف فرقته الموسيقية الخاصة. ومن أشهر أغانيه (بسحر العين تركت القلب هايم)، ومن أبرز تلاميذه سيد درويش، الذي أثر في كل الحقب الغنائية والموسيقية التي أعقبته.

أنت المنى

يتصل بنا الحديث لنقف عند الشيخ أبو العلا محمد، الذي ولد عام 1878 في القاهرة، حيث أجاد القرآن حفظاً وتجويداً، وفن الإنشاد، ثم دلف إلى حقل الغناء الطربي، واستغل أسلوب التجويد، حيث حرص على أن تكون الكلمات والأبيات الشعرية واضحة النطق، مُعبّرة عن المعنى مع تفخيم الحروف ومخارجها، والتأكيد عليها ليعطي ما يلحّنه طعماً جديداً مختلفاً، ليصبح فنه علامة فارقة في مجال القصيدة الغنائية التي يُعد أحد مؤسسيها بجدارة، وبلونه الجديد بدأ الشيخ أبو العلا يحقق شهرته كمطرب، واشتهرت له أغانٍ وقصائد باللغة العربية الفصحى، مثل أغنية «وحقك أنت المنَى والطلب».

غرد يا بلبل

نموذج آخر انساب من عباءة الإنشاد الديني إلى عوالم الغناء الطربي، ذلكم هو المطرب صباح فخري، الذي ولد في الثاني مايو 1933 في مدينة حلب في كنف أسرة تقليدية، تخصص ربها في قراءة القرآن والإنشاد الديني الصوفي، وترعرع صباح في جو من حلقات الذكر التي داوم على حضورها، مما أتاح له التعرف إلى مدرسة دمجت الإنشاد بالطرب والغناء، وهو مذهب بعض المحدثين، منهم الشيخ عمر البطش والشيخ بكري الكردي والحاج مصطفى الطراب. فكانت أول أغنية يؤديها هي أغنية (غرّد يا بلبل وسل الناس بتغريدك). واضعاً بصمته في التراث الغنائي العربي، وحريٌّ بنا القول إن فن الإنشاد الديني وتعلم القرآن شكّلا عملاً مهماً في نبوغ صباح الفني.

المؤذن

لم يبخل المسجد على نموذج آخر بكل رهافة الحس والمدد الروحاني، في أن يؤثث وجدان الفنان والمنشد السوري صبري مدلل (1918-2006)، لينطلق في فضاء الفن الغنائي بنوعيه الإنشادي الديني والغنائي الطربي. على ذلك فإن مدلل قد رتع لا شعوره الفني بين أمواج الأناشيد الدينية والتواشيح الصوفية، التي كان يستمع لها في رحاب المسجد، وأسره أداء الأذان، حتى إذا ما تكامل عمره إلى الـ15، صار مؤذناً بصفة رسمية. وفي عام 1945 تهيّأت لمدلل فرصة دخول إذاعة حلب بواسطة معلمه عمر البطش فانضم إلى «كورسها»، وبحلول عام 1975، كانت «فرقة مدلل» تؤدي إلى جانب الإنشاد الديني الغناء الطربي التراثي، بعد أن أدخل إليها الآلات الموسيقية. ويُعتبر مدلل من النماذج الواضحة التي خطت نقلتها السلسة من الإنشاد الديني إلى الغناء الطربي بيُسر. من دون التخلي عن إرثه الإنشادي.

تواشيح

أمّا أم كلثوم، فقد أشار التاريخ الفني العربي إلى «كوكب الشرق»، على أنها لم تكن المرأة الأولى التي اقتحمت مجال الموسيقى والتطريب، بل سبقتها من قبل منيرة المهدية، لكن فرادة أم كلثوم وتميزها جاءا من أنها نحتت تجربتها الفنية عبر الفنون الدينية في الإنشاد والتواشيح، وبذلك كانت المرأة الأولى التي حفظ لها التاريخ، تألق موهبتها بنور الإنشاد الديني وحفظ القرآن، الشيء الذي مكّنها من إدخال تقنيات الفنون الدينية، في صلب مكونات فن التطريب الغنائي. وقد انطبع عصر أم كلثوم وما بعده بطابعها في الأداء والتلحين، وذلك بمعيّة ملحنها الموهوب محمد عبد الوهاب، الذي لم يشذ عن أم كلثوم، كونه بدأ حياته الفنية من أدوار الإنشاد الديني وحفظ القرآن.

مدائح نبوية

في السودان المطبوع مزاج ذائقته الفنية بالسلم الخماسي الأفريقي، نجد أن أغلب المطربين إنثالت مواهبهم الغنائية من لدن المديح النبوي وحفظ القرآن، حيث كان «للخلوة» دور كبير في صياغة وجدانهم وترهيف إحساسهم، أمثال عميد الفن السوداني الحاج محمد أحمد سرور، الذي ولد في عام 1901 وتوفي في 1947، ويرجع سر تفوقه الكبير في غنائه إلى القصائد والمدائح النبوية في فجر حياته، مما جعله يُحسن مخارج الحروف وتستقيم لها موسيقى اللغة العربية.

ليس هناك حرج

يمنح الشاعر الصوفي المغربي الشيخ محمد الحراق التطريب الروحي، جواز مرور لعلياء القيمة الصوفية الجمالية عندما يقول: «يهز بالرقص من أعطافه فرحا/ أيامه أبداً بالراح خضراء/ فتراقصوا طرباً على لذاتهم / وتواجدوا فيه بذاك فصاحوا/ وشربت من خمر الملاحة شربة/ هززت من طربي بها أعطافي». فيُجيز الحراق بتلك الأبيات السماع الطربي، حيث يتفق في ذلك مع صاحب الرسالة القشيرية، للإمام أبي القاسم عبد الكريم القشيري، وهو من كبار العلماء في الفقه والتفسير والحديث والأصول والأدب والشعر، فيما ذهب إليه في أن (النغمة الطيبة روحٌ من الله تعالى، يروح بها قلوباً محترقة بنار الله تعالى)، لذلك لم يجد المنشدون حرجاً في الانتقال السلس من الإنشاد الديني إلى الغناء الطربي. وأيضاً بسبب أن موضوعيهما يكادان يتطابقان، ذلك أن الحب الذي احتفيا به يُعتبر درجة يترقى منها السالك صعداً إلى مقامات الحب الإلهي، كما ذهب إلى ذلك الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي.